المسرحية الصوفية

مسرحية فصحى توضح أن التصوف ليس كلمة تقال
ولا نشيد أو مدح بل إن التصوف فعل وعلم
تأليف الكاتب
محمد
بن عبد الله شرف الدين الكراديسي
معظم الأشعار من ديوان مناجاة للمؤلف
الفصل الأول
********
المشهد الأول
***********
يُفتح
الستار على خلفية بيوت ريفية قديمة يُكمل أهلها عشاءهم نوماً ، راضين بما قسمه
الله لهم ، لا تشغلهم الدنيا ولا ملذاتها ، ولكنهم مشغولون بما هو أكبر وأعظم من
ذلك ألا وهو رب الدنيا والآخرة ورب كل شئ ، فشغلهم الشاغل هو إرضاء رب العالمين .
منزل
بسيط ، أساسه متواضع ، يسكن فيه الحاج أحمد والحاجة راضية وابنهما الصغير " على
" الذي يبلغ من العمر عشر سنوات ، والبيت يكتظ بالمدعوين للاحتفال بعلى
بمناسبة ختمه للقرآن الكريم .. ويدور بينهم هذا الحوار ...
الحاج
أحمد : شرفتمونا يا أحباب ، شاكراً لكم تلبية الدعوة .
الشيخ إسماعيل
" إمام المسجد " : والله إنها لدعوة كريمة من رجل كريم لتكريم ابن كريم من
بيت كريم .
الشيخ
عطوة " شيخ على ومحفظه " : إن أسعد رجل في هذه الليلة هو أنا لأن المُكَرمْ
هو تلميذي النجيب ، الفذ اللبيب ، بارك الله فيه وحفظه بحفظه للقرآن الكريم .
الحاج
كامل : " جار الحاج أحمد ويمتاز بالفصاحة واللباقة" : لقد تناولنا
طعامنا وشرابنا وأصبحت المعدة ممتلئة ، ونحمد الله على ذلك ، ألا آن الأوان لنملئ
أسماعنا ونشنف آذاننا بالسهرة القرآنية التى شرفٌ لي أن أقدمها .
الحاج
أحمد : هيا يا حاج كامل تفضل بتقديم فقرات الحفل .
الحاج كامل : الحمد لله الذي شهدت بوجوده آياته الباهرة ،
ودلت على كرم جوده نعمه الباطنة والظاهرة ، وسبحت بحمده الأفلاك الدائرة ، والرياح
السائرة ، والسحب الماطرة ، هو الأول فله الخلق والأمر ، والآخر فإليه الرجوع يوم
الحشر ، هو الظاهر فله الحكم والقهر ، هو الباطن فله السر والجهر .
وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شئ قدير
.
وأشهد
أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبدُ الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه ، إذا سار
سار النور معه ، وإذا تكلم كانت الحكمة مرفعه .
هو
المختار من البرايا هـو الهادي البشير هو الرسول
عليه من
المهيمن كل وقت صـــــلاة دائماً فيها القبـول
وعلى
آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلى يوم
الدين ونحن معهم
يا أرحم
الراحمين . . أما بعد :-
لقد
جئنا جميعاً اليوم لنحتفل بإبنٍ لنا تقيٌ نقىٌ وهذا الصبي يُدعى على ، بمناسبة إتمامه لحفظ
كلام ربنا العلى ، وخير ما نبدأ به حفلنا الليلة ، نستمع إلى صوت رنان ، يتلوا
ويتنغم بالقرآن ، دستور ومنهاج كل زمان ومكان ، والذي نزل على قلب النبي العدنان ،
فكان هداية للإنس والجان .
مع
فضيلة الشيخ عطوة عبد رب النبي يمتعنا بآى الذكر الحكيم فليتفضل مشكوراً مأجوراً
....
الشيخ
عطوة : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم : " وَالَّذِي
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ
لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ
اللَّهِ ۚ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا
يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ۖ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا
حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ
إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن
فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) "
. صدق الله العظيم .
الحاج
كامل : صدق الله العظيم وبلغ رسوله الكريم ونحن على ذلك من الشاهدين ، أيها الأخوة
الأحباب استمعنا واستمتعنا إلى آي الذكر الحكيم من سورة فاطر ، تلاها على مسامع
حضراتكم فضيلة القارئ الشيخ عطوة عبد رب النبي وكانت خير بداية لحفلنا الكريم ، والآن
مع كلمة الوعظ والإرشاد عن فضل القرآن الكريم وفضل حُفاظه وفضيلة الشيخ إسماعيل
بدر الدين .
الشيخ إسماعيل : إن الحمد
لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ،
من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، طب القلوب ودوائها وعافية الأبدان وشفائها
ونور الأبصار وضيائها .
سيدي
يا رسول الله أناديك قائلاً :
أنت
الذي قاد الجيوش محطم
عهد
الظـــــلام وأدب السفهاء
وسموت
بالبشر الذين تعلموا
سنن
الشريعة فارتقوا سعداء
سعدت
بطلتعك السماوات العلا
والأرض
صارت جنة خضراء
صلى
عليك الله يا نور الهدى ، صلى عليك الله يا ماحي الدجى ، ما هبت النسائم وما ناحت
على الأيك الحمائم ...
ثم
الرضا عن أبى بكر وعن عمر
وعن
على وعن عثمان ذي الكرم
والآل
والصحب ثم التابعين فهم
أهل
التقى والنقي والحلم والكرم
ثم أما بعد :
أَكْـرِمْ بقـومٍ
أَكْرَمُـوا القُرآنـا
وَهَبُـوا لَـهُ
الأرواحَ والأَبْـدَانـا
قومٌ.. قد اختـارَ
الإلـهُ قلوبَهُـمْ
لِتَصِيرَ مِنْ
غَرْسِ الهُـدى بُسْتَانـا
زُرِعَتْ حُروفُ
النورِ.. بينَ شِفَاهِهِمْ
فَتَضَوَّعَتْ
مِسْكـاً يَفِيـضُ بَيَانَـا
رَفَعُوا كِتابَ
اللهِ فـوقَ رُؤوسِهِـمْ
لِيَكُونَ نُوراً
في الظـلامِ... فَكَانـا
سُبحانَ مَنْ
وَهَبَ الأُجورَ لأهْلِهَـا
وَهَدى القُلُوبَ
وَعَلَّـمَ الإنسانـا
يَا رَبِّ أَكْرِمْ مَـنْ يَعيـشُ حَيَاتَـهُ
لِكِتَابِـكَ الوَضَّـاءِ لا يَتَـوَانـى
يَا مُنْزِلَ الوَحْـيِ الْمُبِيـنِ
تَفَضُّـلاً
نَدْعُوكَ فَاقْبَلْ يَـا كَرِيـمُ دُعَانـا
اجْعِلْ كِتَابَـكَ بَيْنَنَـا نُـوراً لنـا
أَصْلِحْ بِهِ مَـا سَـاءَ مِـنْ دُنْيَانـا
واحْفَظْ بِهِ الأوطانَ، واجمعْ شملَنـا
فَالشَّمْلُ مُـزِّقَ، وَالْهَـوَى أَعْيَانـا
وانصُرْ بِهِ قَوْمـاً تَسِيـلُ دِمَاؤهُـمْ
فِي القُدْسِ.. في بَغْدادَ.. في لُبْنَانـا
أيها
الأخوة الأحباب .. إن القرآن الكريم معجزة النبي الخالدة التي كانت ولا زالت وسوف
لا تزال يتحدى الله عز وجل به البشرية كلها على أن القرآن من عند الله عز وجل ،
ولقد تحدى الله به فرسان البلاعة ، وأساطين البيان ، وأرباب الفصاحة في مكة ،
تحداهم الله أن يأتوا بقرآن مثله فعجزوا فقال جلّ وعلا قل ، قل يا محمد لو اجتمعت
الإنس والجن على أن يأتوا بهذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً .
فكتاب ربنا هو نور للبشرية جمعاء .. ودستور
أنزله رب السماء .. فيه نبأ من قبلنا من الأمم .. وما شَرَعَه ربنا وحَكَمْ .. وما
أمَرَنَا بإتباعه وألزم .. وما نهانا عنه ربنا وحرَّم .. يُنَظِمُ الحياة للبشر ..
ويدل على الخير ويحذر من الشر .. ملئ بالأخبار والمواعظ والعبر .
فمن
أراد العلم فعليه بالقرآن ، ومن أراد الفقه فعليه بالقرآن ، ومن أراد الحكمة فعليه
بالقرآن ، ومن أراد العزة فعليه بالقرآن ، ومن أراد الخير كله فعليه بالقرآن .
ولنعلم
جميعاً بأن حامل القرآن أعلى الناس منزلة ، فإنه سيد كما كان أُبى بن كعب سيد
المسلمين .
فإياك
وسب العلماء وانتهاك أعراضهم ، فإن لحوم العلماء مسمومة .
روى ابن
ماجة (215) وأحمد (11870) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ
النَّاسِ ) قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ هُمْ ؟ قَالَ : ( هُمْ أَهْلُ
الْقُرْآنِ ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ ) .
وصححه
الألباني في "صحيح ابن ماجة" .
قال
المناوي رحمه الله :
"
أي حفظة القرآن العاملون به هم أولياء الله المختصون به اختصاص أهل الإنسان به ،
سموا بذلك تعظيما لهم كما يقال : "بيت الله" .
قال
الحكيم الترمذي : وإنما يكون هذا في قارئ انتفى عنه جور قلبه وذهبت جناية نفسه ،
وليس من أهله إلا من تطهر من الذنوب ظاهرا وباطنا ، وتزين بالطاعة ، فعندها يكون
من أهل الله " ."فيض
القدير" (3 / 87) .
ولا
يكفي مجرد التلاوة ليكون من أهل القرآن ، حتى يعمل بأحكامه ، ويقف عند حدوده ،
ويتخلق بأخلاقه .
وللحافظ
محمد بن الحسين الآجري رحمه الله في ذلك كلام طيب جدير بالعناية ، نذكر منه طرفاً
، قال رحمه الله :
"
ينبغي لمن علمه الله القرآن وفضله على غيره ، ممن لم يحمله ، وأحب أن يكون من أهل
القرآن وأهل الله وخاصته أن يجعل القرآن ربيعا لقلبه يعمر به ما خرب من قلبه ،
يتأدب بآداب القرآن ، ويتخلق بأخلاق شريفة تبين به عن سائر الناس ، ممن لا يقرأ
القرآن :
فأول ما
ينبغي له أن يستعمل تقوى الله في السر والعلانية ، باستعمال الورع في مطعمه ومشربه
وملبسه ومسكنه ، بصيراً بزمانه وفساد أهله ، فهو يحذرهم على دينه ، مقبلاً على
شأنه ، مهموماً بإصلاح ما فسد من أمره ، حافظاً للسانه ، مميزاً لكلامه ، إن تكلم
تكلم بعلم إذا رأى الكلام صواباً ، وإن سكت سكت بعلم إذا كان السكوت صواباً ، قليل
الخوض فيما لا يعنيه ، يخاف من لسانه أشد مما يخاف عدوه ، قليل الضحك مما يضحك منه
الناس لسوء عاقبة الضحك ، باسط الوجه ، طيب الكلام ، لا يغتاب أحداً ، ولا يحقر
أحداً ، ولا يسب أحداً ، ولا يشمت بمصيبة ، ولا يبغي على أحد ، ولا يحسده ، وقد
جعل القرآن والسنة والفقه دليله إلى كل خلق حسن جميل ، حافظاً لجميع جوارحه عما
نهي عنه ، إذا قيل له الحق قبله من صغير أو كبير ، يطلب الرفعة من الله ، لا من
المخلوقين ، ماقتاً للكبر ، خائفاً على نفسه منه ، لا يتآكل بالقرآن ولا يحب أن
يقضي به الحوائج ، ولا يسعى به إلى أبناء الملوك ، ولا يجالس به الأغنياء ليكرموه
، يقنع بالقليل فيكفيه ، ويحذر على نفسه من الدنيا ما يطغيه ، يتبع واجبات القرآن
والسنة ، يأكل الطعام بعلم ، ويشرب بعلم ، ويلبس بعلم ، وينام بعلم ، ويجامع أهله
بعلم ، ويصطحب الإخوان بعلم ، ويزورهم بعلم ، يلزم نفسه بر والديه ، وإن استعانا
به على طاعة أعانهما ، وإن استعانا به على معصية لم يعنهما عليها ، ورفق بهما في
معصيته إياهما بحسن الأدب ؛ ليرجعا عن قبيح ما أرادا مما لا يحسن بهما فعله ، يصل
الرحم ، ويكره القطيعة ، من قطعه لم يقطعه ، ومن عصى الله فيه أطاع الله فيه ،
رفيق في أموره ، صبور على تعليم الخير ، يأنس به المتعلم ، ويفرح به المجالس ،
مجالسته تفيد خيراً ، قد جعل العلم والفقه دليله إلى كل خير ، إذا درس القرآن
فبحضور فهم وعقل ، همته إيقاع الفهم لما ألزمه الله : من إتباع ما أمر ، والانتهاء
عما نهى ، ليس همته متى أختم السورة ؟ همته متى أستغني بالله عن غيره ؟ متى أكون
من المتقين ؟ متى أكون من المحسنين ؟ متى أكون من المتوكلين ؟ متى أكون من
الخاشعين ؟ متى أكون من الصابرين ؟ متى أعقل عن الله الخطاب ؟ متى أفقه ما أتلو ؟
متى أغلب نفسي على ما تهوى ؟ متى أجاهد في الله حق الجهاد ؟ متى أكون بزجر القرآن
متعظاً ؟ متى أكون بذكره عن ذكر غيره مشتغلاً ؟ .
فمن
كانت هذه صفته ، أو ما قارب هذه الصفة ، فقد تلاه حق تلاوته ، ورعاه حق رعايته ،
وكان له القرآن شاهداً وشفيعاً وأنيساً وحرزاً ، ومن كان هذا وصفه ، نفع نفسه ونفع
أهله ، وعاد على والديه ، وعلى ولده كل خير في الدنيا وفي الآخرة "
ويجب
على حامل القرآن أن لا يتخذ القرآن معيشة يتكسب بها ، فلو كان له شئ يأخذه على ذلك
، فلا يأخذه بنية الأجرة ، بل بنية الإعانة على ما هو بصدده .
ويجب
على حامل القرآن أيضاً أن يتحلى بمكارم الأخلاق ، وحُسن السمعة ، ولا يسير في طريق
به شبهه .
فمع
الأسف نرى في أيامنا هذه من بعض حاملي كتاب الله العجب العُجاب ، للأسف يظنون
أنفسهم كعامة البشر ويرتكبون الموبقات والفواحش والكبائر ، وفى اليوم الثاني
يصعدون منصة التلاوة ويقرأون وكأن شيئاً لم يكن ..... فبالله عليكم أيليق هذا
بحامل كتاب الله ؟؟!! .
فحامل
القرآن حامل راية الإسلام ، لا ينبغي له أن يلهو مع من يلهو تعظيماً لحق القرآن .
فاللهم
اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ، ونور صدورنا ، وجلاء أحزاننا ، وذهاب همومنا
وذنوبنا .
اللهم
اجعلنا من الذين يتلونه آناء الليل وأطراف النهار .
اللهم
اجعله حجة لنا لا علينا ، اللهم اجعله شافعاً لنا يوم القيامة . اللهم أمين ..
أمين
وسلام
على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
الحاج
كامل : أيها الأخوة الحضور هكذا استمعنا إلى كلمة الوعظ والإرشاد ، والتي هي ليست
بالقصيرة المخلة ولا بالطويلة المملة ، والتي أوضح فيها فضيلة الشيخ إسماعيل فضل
القرآن الكريم وفضل حامله ، والآداب التى يجب أن يتحلى بها حامل القرآن .
والآن
حان وقت الإنشاد ، ومدح خير العِباد ، الذي بحبه نبلغ غاية المَرام والمُراد ، مع
فضيلة المبتهل الشيخ سيد عواد ..
المبتهل
الشيخ سيد عواد : لا إله إلا الله ، سيدي
وحبيبي وقرة عيني محمد رسول الله صلوات ربى وسلامه عليه ...
كُلُّ الخَلاَئِقِ فِي حِمَى الدَّيَّانِ
وَكِتَابُهُ هَدْيٌ عَظِيمُ الشَّانِ
يَا أُمَّةَ القُرْآنِ إِنَّ كِتَابَكُمْ
لَهُوَ الشِّفَاءُ وَصِحَّةُ الأَبْدَانِ
وَهُوَ الدَّوَاءُ لِكُلِّ جُرْحٍ غَائِرٍ
وَهُوَ المُحَارِبُ نَزْغَةَ الشَّيْطَانِ
وَهُوَ البَلاَغَةُ وَالفَصَاحَةُ كُلُّهَا
وَهُوَ الحَضَارَةُ فِي عُلُوِّ مَكَانِ
اقْرَأْ كِتَابَ اللهِ وَافْهَمْ حُكْمَهُ
تُدْرِكْ عَطَاءَ اللهِ فِي إِحْسَانِ
فَهُوَ الخِطَابُ لِكُلِّ عَقْلٍ نَابِهٍ
وَهُوَ الضِّيَاءُ بِنُورِهِ الرَّبَّانِي
يَهْدِي إِلَى الخَيْرِ العَمِيمِ وَإِنَّهُ
أَمْنُ القُلُوبِ وَرَاحَةُ الأَبْدَانِ
قَدْ أَنْزَلَ القُرْآنَ رَبٌّ حَافِظٌ
لِيُعَلِّمَ الإِنْسَانَ خَيْرَ بَيَانِ
اقْرَأْ كَمَا أَمَرَ الرَّسُولُ تَعَلُّمًا
وَانْبِذْ طَرِيقَ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ
النبي
صلوا عليه ، اللهم صلى وسلم وبارك عليه .
الحاج
كامل : صلوات ربى وسلامه عليك سيدي يا رسول الله وعلى آلك وصحبك الأطهار الأخيار
وسلم تسليماً كثيراً ... أيها الجمع الطيب المبارك نشكر لكم تلبية الدعوة الكريمة
لتكريم ابننا الغالي ، داعين الله سبحانه أن يوفقنا لعمل الخيرات وأن نسعى إليكم
دائماً في الأفراح والمسرات ، إنه ولى ذلك والقادر عليه ، سبحان ربك رب العزة عما
يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ، وسلام الله عليكم ورحمته
وبركاته .
ثم يودع
الحاج أحمد المدعوين وينصرفون ... ثم بعد ذلك ينادى الحاج أحمد على زوجته : يا أم
على .. يا أم على .
الحاجة
راضية : قادمة يا أبا على .. خيراً زوجى الغالي ، لعل في الأمر خيراً .
الحاج
أحمد : خيراً إن شاء الله يا أم على .. لقد اختفى على عن نظري ، أعتقد أنه ذهب
ليخلد إلى النوم قليلاً ، اذهبي إليه وأيقظيه ليصلى معي الفجر بالمسجد ؟
الحاجة
راضية : ما زلنا في وقت مبكر ، وأعتقد أن الصبي ما زال نائماً .
الحاج
أحمد : لا .. أيقظيه ليصلى معي كما عودته على ذلك .
الحاجة
راضية تريد الذهاب إلى ابنها ولكنها تجده أمامها مستيقظاً منتبهاً .
على :
ماذا تريدين يا أماه ؟
الحاجة
راضية : جئت لأوقظك لتصلى الفجر مع والدك في المسجد في جماعة فوجدتك مستيقظاً .
على :
وهل سأنتظرك يا أماه حتى تأتى إلىَّ ، أنا لم أنم
، ولكني جلست مع نفسي أنظر إلى حب الناس لي وتعلقهم بحافظ القرآن ، وكذلك
المكانة المرموقة له بينهم ، وكذلك لأقرأ ورد اليوم من القرآن والأدعية .
الحاجة
راضية : بارك الله فيكَ حبيبي وقرة عيني .
على : وفيكِ
بارك الله يا أماه يا سبب وجودي في هذه الحياة .
الحاجة
راضية : والله يا حاج أحمد إني لخائفة على هذا الصبي بسبب ذكائه المفرط ونبوغه في
سن مبكرة ، والله
يا أبا
على عندما أحدثه أعتقد أنى أحدث رجلاً كبيراً يعلم كل شئ .
الحاج
أحمد : يا أم على يقولون في الأمثال " لا يحسد المال إلا أصحابه " توجهي
إلى ربك بالحمد والثناء على أن وهبكِ طفلاً ذكياً مطيعاً مثل هذا .
الحاجة
راضية : الحمد لله على كل حال يا أبا على .. إن ابننا هذا هبة من الله سبحانه ويجب
علينا أن نحافظ عليه .
الحاج
أحمد : وهل فعلتُ غير ذلك معه يا أم على ، لقد ذهبت به إلى كُتاب القرية منذ بدأ
نطقه للحروف وتعلم الكلام وشرع الشيخ في تعليمه كتاب الله تعالى ، وبحمد الله
تعالى أتم حفظه للقرآن الكريم كاملاً ، وها قد رأيتِ جمال الحفل الذي أقمته من
أجله .
الحاجة
راضية : ولكن الحفل كلفك كثيراً يا أبا
على .
الحاج
أحمد : يا أم على .. الأموال تذهب وتأتى ولكن لحظة سعادة واحدة لا تقدر بثمن ،
المهم أنى حاولت قدر المستطاع إدخال بعضٍ من السعادة على ولدى .
على :
سوف تدخل السرور علىَّ أكثر لو تحركنا الآن لكي لا تضيع منا صلاة الفجر يا أبى .
الحاج
أحمد يضحك وينظر لابنه نظرة فيها رضا وسعادة ويقول له : لا يا بنى لن تضيع الصلاة
إن شاء الله ، هيا بنا لنذهب للصلاة وبعد مجيئنا نتناول وجبة الإفطار لأذهب أنا
إلى ورشتي وتذهب أنت إلى شيخك للمتابعة والمراجعة لكتاب الله فلقد روى مسلم في صحيحه رقم (790و791) عن أبي
موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تعاهدوا هذا القرآن
فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عُقُلها " .
على : لا
تخف يا أبى ولكن هيا بنا ، وينظر إلى أمه قائلاً لها : لا تنسى صلاة الفجر يا أماه
.
الحاجة
راضية : لن أنساها يا بنى بارك الله فيك .
*********************
المشهد الثاني
*********
مسجد
القرية " زاوية صغيرة معروشة بالخشب ومفروشة بالحصير " وشيخ الزاوية هو الشيخ
إسماعيل ، يُحب علياً حباً شديداً ، عندما رآه نادى عليه وعلى والده ، فأتياه فنظر
إلى على نظرة رضا وقبل رأسه وقال له : لقد كان حفلاً عظيماً يا أبا على ، ومبارك
عليك يا على حفظك لكتاب الله تعالى .
على : بارك الله فيك يا شيخ إسماعيل ، وأنتَ يا مولانا
كنت رائعاً ، وكلمتك عن القرآن وأهله كانت كلمة جميلة موفقة .
الشيخ إسماعيل
: بارك الله فيك يا على ، إذاً سوف تصلى بنا فجر اليوم يا شيخ على .
على :
كيف ذلك سيدي وفضيلتكم هنا ، وأنت تعلم أن إمامة الصبي للمصلين مسألة فيها خلاف .
الشيخ إسماعيل
: ألم تعلم أن الشوكانى أجاز ذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليؤمكم
أكثركم قرآنا "
على : كما ترى شيخنا ، مع أنى لست بأكثركم قرآناً فى
وجودكم .
ثم أقيم
للصلاة وتقدم على للإمامة وشرع فى قراءة فاتحة الكتاب بصوت ندى ثم شرع فى قراءة
خواتيم سورة الحشر مرتلاً قوله تعالى : يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا
قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ
أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ
النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ
الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ
خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ
نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ
الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ
الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ
الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ
الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24 (
ثم أكمل
صلاته بالناس بصوت جميل رائع والكل من خلفه يبكون من نداوة وجمال صوته ، إلى أن
انتهى وسلم .
وإذا
بالناس جميعاً يسرعون إليه ويقبلونه ويهنئون والده على هذه العطية الربانية والمنحة
الإلهية التى منحه الله إياها .
الحاج
أحمد : أحمد الله على هذا الفضل العظيم ...
وهو
يمسح دموعه من الفرح .
الشيخ إسماعيل
: بارك الله فيك يا بنى ، والله لقد أسعدتني اليوم وأحييت بداخلي سنة كادت أن
تندثر ألا وهى
"
الشباب المؤمن " وعودته لإمامة المصلين ، كما كان فى عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم .
الحاج
أحمد : أرجو من الله أن يقتدي بهم شيخ إسماعيل .
الشيخ إسماعيل
: وهل يقرأ في كتب السيرة يا حاج أحمد .
الحاج
أحمد : لقد اشتريت له كتب السيرة النبوية والتراجم ليعلم كل شئ عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم وصحابته الأجلاء .
الشيخ إسماعيل
: أما تعلم يا بنى أن هناك من الصحابة من كان نابغاً وهو في سن المراهقة والشباب
وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نأخذ العلم عنهم برغم صغرهم .
على :
أعلم شيخي ، كانوا رجالاً ونساءً بمعنى الكلمة .
الشيخ إسماعيل
: نعم يا على لن ننسى أبداً منزلة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها برغم
حداثة سنها فلا شك أبداً أنها من علماء الصحابة رضي الله عنهم ومن مفتيهم وهي أفقه
نساء الأمة على الإطلاق وقد نقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم علماً كثيراً طيباً
مباركاً فيه .
قال
مسروق : رأيت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن
الفرائض .
وقال
عطاء بن أبي رباح : كانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأياً في
العامة .
وقال
هشام بن عروة عن أبيه : ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة .
وقال
أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه : ما أشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا
عندها فيه علماً .
وقال
الزهري لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع العالمين المؤمنين وعلم جميع النساء لكان
علم عائشة أفضل .
ولا تنسى أيضاً في ميدان العلم كان جابر وابن
عباس وأنس وابن عمر وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل رضوان الله عليهم كانوا من فقهاء
ومحدثي أصحاب النبي صلوات ربى وسلامه عليه ، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه
العزيز مادحاً أصحاب نبيه الكريم ، والذين يسيرون على نهجهم : {وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ
بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ} (التوبة :100).
صلَّوا
معه إلى القبلتين، وبايعوه بيعة الرضوان، وقاتلوا معه في بدر، وشهدوا المشاهد،
عاينوا التنزيل، رافقوه في نزول الوحي، وسمعوه منه غضاً طرياً، حملوا العلم، فقهوا
عنه، تأسوا به، ساروا على نهجه، فتحوا البلاد...
يا حاج
أحمد إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غفر الله لجميعهم ، وأوجب لهم الجنة - كما
جاء في كتابه - ، هم قدوتنا: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} (التوبة :100)
، يجب علينا أن نتأسى بهم ، وأن نقتبس من أفعالهم الحسنة ؛ لأن الله رضي عنهم ،
رضي عنهم بالإيمان ، ورضوا عنه بالثواب ، رضي عنهم في العبادة ، ورضوا عنه بالجزاء
، رضي عنهم بطاعتهم لنبيه صلى الله عليه وسلم ، ورضوا عنه بقبول وحيه وشرعه.
هؤلاء
قدوتنا ، هؤلاء الذين حملوا الدين ، هؤلاء الذين انتشر بهم الإسلام ، هؤلاء الذين
توسعت بهم رقعة دولة هذا الدين شرقاً وغرباً .
عُباد ليل إذا جن الظلام بهم
كما عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا ناد الجهاد بهم
هبوا إلى الموت يستجدون لقياه
يا ربي فابعث لنا من بعدهم نفراً
يشيِّدون لنا مجداً أضعناه
الحاج
أحمد : اللهم أمين .. فهؤلاء هم الشباب يا شيخ إسماعيل ، صحابة رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، أما شباب اليوم فلا حول لهم ولا قوة ، ونسأل الله لهم السلامة .
الشيخ إسماعيل
: السبب الرئيسي في انحرافاتهم هو الإثارة والمغريات وحياة الترف المعاصر، وقد
صارت الأجهزة الإعلامية تبالغ في إثارة الفتنة أمام المراهقين والمراهقات ، فتصور
غرف النوم تصويراً فاضحاً ، وتصور العملية الجنسية أمامهم بكل وقاحة ، وحتى أصحاب
السلع المادية لا تروج سلعهم إلا من خلال استخدام الإغراء والإثارة في الإعلان
والدعاية ؛ فأنتج ذلك جيلاً من المراهقين والمراهقات تأسره الغريزة ويلهث وراءها .
الحاج
أحمد : وأيضاً يا شيخ إسماعيل غياب التوجيه والقدوة أمام الشباب والفتيات ،
فالنماذج التي تُبرز أمامهم هم أهل الفن والرياضة وأهل المجون والفساد.
فهذه
العوامل وغيرها لها أثرها البالغ في حياة المراهقين والمراهقات في هذا العصر الذي
نعيشه ، ولو أصلحنا تربيتهم لكان لهم شأنٌ
آخر .
الشيخ إسماعيل
: أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحمينا وإياهم من أسباب الفساد ، وأن يصلح ذرياتنا ،
وأن يجنبنا وإياهم أسباب معصيته وسخطه ، إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب.
الحاج
أحمد : اللهم أمين ، ثم يستطرد قائلاً : معذرة مولانا لقد لاحت خيوط الشمس في
الأفق وحان الآن وقت الذهاب إلى البيت لتناول وجبة الإفطار ، ثم الانطلاق بعدها
إلى أعمالنا .
الشيخ إسماعيل
: نعم يا حاج أحمد في أمان الله تعالى ، ثم يستطرد قائلاً : في أمان الله شيخنا
الصغير حفظك الله ورعاك ومن كل عين نجاك .
على :
أشكرك شيخنا ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الشيخ إسماعيل
: وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته .
****************
المشهد الثالث
**********
يصل
الحاج أحمد وولده إلى البيت فيجدان الحاجة راضية قد قامت بتجهيز وجبة الإفطار وهى
وجبة بسيطة خفيفة عبارة عن قطعة من الجبن الأبيض وقليل من العسل الأسمر وبعض شرائح
الخبز ، وتضع الطعام على طاولة صغيرة مصنوعة من الخشب ، ويجلس الحاج أحمد وزوجته
وابنهما يتناولان طعامهما ، وبعد عدة لقيمات بسيطة لكل منهم يُرفع الطعام بعد
الحمد والثناء على الله تعالى ، ثم يدور بينهم هذا الحوار :
الحاج
أحمد : ألا تعلمين يا أم على أن علياً صلى الفجر بالناس جميعاً اليوم في جماعة ،
وأن الشيخ إسماعيل هو الذي قام بنفسه وجعله إماماً لنا ، والناس جميعاً عندما
استمعوا لصوته بكوا من فرط حلاوته وخشوعه في التلاوة .
الحاجة
راضية : إني أخاف عليه من الحسد .
الحاج
أحمد : حسد !! .. ماذا تقولين يا أم على .
الحاجة
راضية : نعم حسد ، وتخرج من ملابسها حجاباً صغيراً وتعلقه في عنق ابنها بغية أن
يحميه .
الحاج
أحمد : يغضب غضباً شديداً ، ويصرخ ويقول لها :
ما هذا يا
أم على ؟
الحاجة راضية : حجاب لكي يحميه من أعين الناس .
الحاج
أحمد : هذه الأفعال من أفعال الجُهال ناقصي العقول .
ومن الذي
قام بعمل هذا الحجاب الغريب لكِ ؟
الحاجة
راضية : ذهبت إلى شيخ مع جارتي وقام بعمله لي .
الحاج
أحمد : أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم ، ألا تعلمين أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال في الحديث الصحيح : ( من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما
أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) .
على
ينزع الحجاب من عنقه ويقول لها : لماذا يا أماه تلقين بنفسك في نار جهنم ، استغفري
ربك وتوبي إليه توبة نصوحاً ، يا أماه " إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " الزمر : 53 .
الحاجة
راضية : أعتقد أن الحسد والعين قد وردا ذكرهما في القرآن ، وأن رسول الله قد حُسد
بل وسُحر .
على :
نعم يا أماه ، ولكن العلاج لا يكون إلا بالقرآن ولا شئ غير ذلك .
الحاج
أحمد : خيراً .. خيراً يا أم على استغفري ربك وتوبي إليه إنه هو التواب الرحيم .
على : لا تغضبي منا يا أماه ، ولكن سأعلمكِ دعاء إذا دعيتِ به حماني الله من كل حسد وعين ، ألا وهو دعاء سيدنا جبريل عليه السلام والذي رقى به سيد الأنام صلى الله عليه وسلم : " فلقد ورد عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت كان إذا اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقاه جبريل قال بسم الله يبريك ومن كل داء يشفيك ومن شر حاسد إذا حسد وشر كل ذي عين " رواه الإمام مسلم .
وعليكِ أيضاً بقراءة آيات الرقية الشرعية وهى : فاتحة الكتاب وآية الكرسي والكافرون والفلق والإخلاص والناس ... كل سورة ثلاث مرات .
والله سبحانه هو الحافظ .
الحاجة راضية : حماك الله ورعاك يا بنى ، ومن كل عين نجاك .
على : هيا يا أبى لتذهب إلى ورشتك ، ولأذهب أنا أيضاً إلى شيخي بالكُتاب للمتابعة والمراجعة .
الحاج
أحمد : هيا يا بنى على بركة الله تعالى ، توكلنا على الله .
الحاجة
راضية : في أمان الله تعالى ورعايته .
الحاج
أحمد وابنه على : السلام عليكم .
الحاجة
راضية : وعليكما السلام ورحمة الله وبركاته .
*******************
الفصل الثاني
********
المشهد الأول
********
مكانٌ
متهالكٌ واسعٌ فسيحٌ معروش بالجريد ومفروش بالحصير القديم الذي أكل عليه الدهر
وشرب ، وشيخ
عجوز يدعى
الشيخ عطوة يجلس على كرسي مرتفع وبيده عصاً طويلة جداً ، يظهر عليه حالة التقشف
والزهد ، والأطفال من حوله يهمهمون بالقرآن وهو يجلس في وسطهم كأنهم في حلقة ذكر ،
ولمَ لا وهم يتلون كلام الله ويتغنون بآياته وتتنزل عليهم السكينة وتحفهم الملائكة
ويذكرهم الله فيمن عنده ...
وإذا
بالشيخ ينظر إليهم قائلاً لهم : النظام .. النظام
يا أبنائي
، أرجو التلاوة بنظام وهدوء مع بعضكم البعض .
الأولاد
جميعاً : أمرك سيدنا .. وينتظمون في قراءتهم .
الشيخ
عطوة : نعم ، نعم .. هكذا تكون القراءة ، ولكن لماذا لا أسمع صوتك يا على ؟!
على :
هكذا شيخي يجب أن نتأدب مع كلام الله سبحانه ، نخشع ونستكين ونتذلل للخالق طالبين
منه سبحانه الرضا والقبول ، وأيضاً أنصت إلى زملائي لأردهم للصواب إذا لحنوا في
القرآن .
الشيخ
عطوة : بارك الله فيك يا على ، أشهد الله يا بنى أنى أحبك مثل ولدى ، وأدعو الله
أن يحفظك وينفع بك اللهم أمين .
على :
أشكرك شيخي ومعلمي ، بارك الله لنا في عمرك .
الشيخ
عطوة : إذاً هيا يا على أسمعنا بصوتك الندى مما أفاض عليك به العلى .
فيتلوا
الصبي من خواتيم سورة البقرة من قوله تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ
إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْـنَ أَحَدٍ مِّــن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَـا وَإِلَيْـكَ الْمَصِيـرُ * لاَ
يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا
اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا
وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا
رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ
لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.،
فيستمع إليه أقرانه وشيخه ، ويبكى الشيخ من نداوة وحلاوة صوت الصبي ، والصبي في
حالة روحانية عجيبة لا تتوافق مع سنه ، فالعجب كل العجب لهذا الصبي الموهوب حقاً
السابق لسنه ، وإذا به وهو يتلوا كلام الله يبكى بكاءً شديداً ، فيسأله شيخه بعد الانتهاء
من التلاوة : لماذا كنت تبكى أثناء التلاوة يا بنى ؟!
على : كنت
أبكى يا شيخي لأني رأيت رجلاً يلبس ثياباً بيضاء وذا لحية بيضاء ويجلس أمامي ويمسك
بكتفي ويحنوا علىَّ ويقول لي : اقرأ يا على سوف يكون لك شأناً عظيماً .
فيبكى
الشيخ ويقول له : ما هذا الكلام يا بنى .
على :
هذا ما رأيته شيخي ومعلمي .
الشيخ
عطوة : وهل رأيت ذلك الشخص قبل ذلك ، أم هي أول مرة ؟
على :
أراه عندما أقرأ كتاب الله شيخي .
الشيخ
عطوة : فقط يا على .. عندما تقرأ القرآن .
على :
لا يا شيخي وعندما أكون منفرداً في حجرتي داعياً ومتوسلاً إلى الله ، أراه يظهر لي
في جانب من الحجرة وينظر إلىَّ ويبتسم ، ولا أعلم من هذا الشخص أستاذي .
الشيخ
عطوة : أبشر يا على هذه علامات التصوف والتعلق برب البرية سبحانه ورسول الإنسانية
صلوات ربى وسلامه عليه .
على :
تصوف ؟!
الشيخ
عطوة : نعم يا على .
على :
وما معنى ذلك شيخي وما هو التصوف ؟
معنى
ذلك أن الله قد اختارك لتكون علماً من أعلام التصوف ، والتصوف يا على هو ميل النفس
المؤمنة إلى خالق الكون والتذلل له واستمطار رحماته ، فلا لذة يا بنى تعدل لذة
مناجاة الخالق والتضرع إليه وخاصة في جوف الليل .. فأبشر يا بنى .
على :
وما مبادئ هذا العلم شيخي ؟
الشيخ
عطوة : يرى الصوفية أنهم لا يكتفون بأن يوضحوا للناس أحكام الشرع وآدابه بمجرد
الكلام النظري، ولكنهم بالإضافة إلى ذلك يأخذون بيد تلميذهم ويسيرون به في مدارج
الترقي ، ويرافقونه في جميع مراحل سيره إلى الله ، يحيطونه برعايتهم وعنايتهم ،
ويوجهونه بحالهم وقولهم ، يذكرونه إذا نسي ، ويقوِّمونه إذا انحرف ، ويتفقدونه إذا
غاب ، وينشطونه إذا فتر .
وهكذا
يرسمون له المنهج العملي الذي يمكنه به أن يتحقق بأركان الدين الثلاثة : الإسلام
والإيمان والإحسان .
ومن أهم
الطرق العملية التي يطبقها رجال التصوف للوصول إلى رضا الله ومعرفته :
العلم :
يعتقد
الصوفية أن العلم والعمل توأمان لا ينفكان عن بعضهما ، والسالك في طريق الإيمان
والتعرف على الله والوصول إلى رضاه لا يستغني عن العلم في أية مرحلة من مراحل
سلوكه.
ففي
ابتداء سيره لا بد له من علم العقائد وتصحيح العبادات واستقامة المعاملات ، وفي
أثناء سلوكه لا يستغني عن علم أحوال القلب وحسن الأخلاق وتزكية النفس .
ولهذا
اعتُبِرَ اكتساب العلم الضروري من أهم النقاط الأساسية في المنهج العملي للتصوف ،
إذ يرى الصوفية أن التصوف ليس إلا التطبيق العملي للإسلام كاملاً غير منقوص في
جميع جوانبه الظاهرة والباطنة .
الصُحبة
:
يعتقد
الصوفية أن للصُحبة أثراً عميقاً في شخصية المرء وأخلاقه وسلوكه ، وأن الصاحب
يكتسب صفات صاحبه بالتأثر الروحي والإقتداء العملي . وأن الصحابة ما نالوا هذا
المقام السامي والدرجة الرفيعة إلا بمصاحبتهم لرسول الإسلام محمد صلى الله عليه
وسلم ومجالستهم له .
وأن
التابعون أحرزوا هذا الشرف باجتماعهم بالصحابة .
مجاهدة
النفس :
يعرّف
الصوفية مجاهدة النفس على أنها : « بذل الوسع في حمل النفس على خلاف هواها ومرادها
المذموم ، وإلزامها تطبيق شرع الله أمراً ونهياً ».
ويقولون
أنه ليس المراد من مجاهدة النفس استئصال صفاتها ؛ بل المراد تصعيدها من سيء إلى
حسن ، وتسييرها على مراد الله وابتغاء مرضاته.
ويستدل
الصوفية على المجاهدة بآيات من القرآن وأحاديث من السنة، منها: في القرآن:
{والذينَ جاهَدوا فينا لنَهديَنَّهم سُبُلَنا} العنكبوت : 69 .
في
السنة النبوية: « المجاهدُ مَنْ جاهد نفسَهُ في الله »
حديث
مرفوع قيل في خطبة حجة الوداع .
ذكر
الله :
يعرّف
الإمام ابن عطاء الله السكندري الذكر على أنه : هو التخلص من الغفلة والنسيان
بدوام حضور القلب مع الحق . وقيل: ترديد اسم الله بالقلب واللسان ، أو ترديد صفة
من صفاته ، أو حكم من أحكامه ، أو فعل من أفعاله ، أو غير ذلك مما يُتقرَّبُ به
إلى الله .
ويؤمن
الصوفية بأن الذكر يثمر المقامات كلها من اليقظة إلى التوحيد ، ويثمر المعارف
والأحوال التي شمَّر إليها السالكون ، فلا سبيل إلى نيل ثمارها إلا من شجرة الذكر،
وكلما عظمت تلك الشجرة ورسخ أصلها ، كان أعظم لثمرتها وفائدتها .
وهو أصل
كل مقام وقاعدته التي يبني عليها ، كما يُبنى الحائط على أساسه ، وكما يقوم السقف
على جداره .
حث أئمة
التصوف على الذكر كثيرا :
فقال
الإمام أبو القاسم القشيري : الذكر منشور الولاية ، ومنار الوصلة ، وتحقيق الإرادة
، وعلامة صحة البداية ، ودلالة النهاية ، فليس وراء الذكر شيء ؛ وجميع الخصال
المحمودة راجعة إلى الذكر ومنشؤها عن الذكر .
وقال
أيضاً: الذكر ركن قوي في طريق الحق سبحانه وتعالى ، بل هو العمدة في هذا الطريق ،
ولا يصل أحد إلى الله إلا بدوام الذكر .
ويجعل
الصوفية للذكر أنواع ، ولكل منها أدلة عندهم من الكتاب والسنة يجيزونها بها ، ولكل
منها فوائد تعود على السالك إلى الله بما يناسب حاله ، فيذكرون:
ذكر السرّ، وذكر الجهر .
الذكر الفردي، والذكر الجماعي .
الذكر باللسان ، والذكر بالقلب .
الخلوة
:
يعرف
الصوفية الخلوة على أنها : انقطاع عن البشر لفترة محدودة ، وترك للأعمال الدنيوية
لمدة يسيرة ، كي يتفرغ القلب من هموم الحياة التي لا تنتهي ، ويستريح الفكر من
المشاغل اليومية التي لا تنقطع ، ثم ذكرٌ لله بقلب حاضر خاشع ، وتفكرٌ في آلائه
آناء الليل وأطراف النهار، وذلك بإرشاد شيخ عارف بالله ، يُعلِّمه إذا جهل ،
ويذكِّره إذا غفل ، وينشطه إذا فتر، ويساعده على دفع الوساوس وهواجس النفس .
أما عن
دليلها الذي يستدلون به من الكتاب والسنة ، عديدة ، منها: الآية القرآنية الكريمة:
(واذكرِ اسم ربِّكَ وتَبَتَّلْ إليه تبتيلاً) [المزمل: 8].
وقد قال
العلامة أبو السعود مفسراً لهذه الآية: ودُم على ذكره تعالى ليلاً ونهاراً على أي
وجه كان؛ من التسبيح والتهليل والتحميد... إلى أن قال : وانقطعَ إليه بمجامع الهمة
واستغراق العزيمة في مراقبته، وحيث لم يكن ذلك إلا بتجريد نفسه عليه الصلاة
والسلام عن العوائق الصادرة المانعة عن مراقبة الله ، وقطع العلائق عما سواه .
ويستدلون
أيضاُ على الخلوة بحديث عن عائشة أنها قالت: "أولُ ما بُدِئَ به رسول الله من
الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم
حُبِّبَ إليه الخلاءُ ، وكان يخلو بغار حِراءَ ؛ فيتَحَنَّثُ فيه - وهو التعبد -
الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة ،
ويتزود لمثلها ، حتى جاءه الحق ، وهو في غار حراء" .
رواه البخاري في صحيحه
على :
ولكن لماذا تحارب الصوفية سيدي كما سمعت ؟
الشيخ
عطوة : التصوف والصوفيون حقيقة كونية لا
يمكن إنكارها أو تجاهلها ، وقد أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( لتتبعن
سنن من كان قبلكم ) ومن هذه السنن التصوف ، إذ التصوف عرف في الأديان السابقة قبل
الإسلام ، وهذه حقيقة مسلم بها اليوم بين جميع الباحثين في التصوف من المسلمين
وغير المسلمين ، الصوفيين وغير الصوفيين .
وأخبر
بها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
( وستفترق
أمتي هذه على ثلاث وسبعين فرقة... الحديث ).
ولقد انتشرت حركة التصوف في العالم الإسلامي في
القرن الثالث الهجري كنزعات فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة ، ثم تطورت تلك
النزعات بعد ذلك حتى صارت طرقاً مميزة متنوعة معروفة باسم الطرق الصوفية .
ولكن نتج
عن كثرة دخول غير المتعلمين والجهلة في طرق التصوف وما نتج عن ذلك من [محل شك]
ممارسات خاطئة عرّضها في بداية القرن الماضي لهجوم باعتبارها ممثلة للثقافة
الدينية التي تنشر الخرافات ، ثم بدأ مع منتصف القرن الماضي الهجوم من قبل المدرسة
السلفية باعتبارها بدعة دخيلة على الإسلام
فيجب
العمل على تنقية هذه الطريقة من الدخلاء عليها من غير المتعلمين الذين يجعلونها
محل شك بممارساتهم الخاطئة .
على :
إذاً أنت صوفي شيخي ؟
الشيخ
عطوة : نعم يا على ولقد أنعم الله علىَّ بكتابة ثلاثة دواوين من الشعر الصوفي .
على :
إذاً أسمعنا بعضاً من شعرك الصوفي شيخنا .
الشيخ
عطوة : اسمع يا على ....
نظرتُ إليكَ وعيني تراكَ
فأنتَ إلهي وربُ السماءْ
وأنتَ الطبيبُ لكلِ الأنامِ
أراكَ بعيني أراكَ الشفاءْ
وأنتَ البصيرُ بكلِ العبادِ
تراني بعينٍ أراكَ الرجاءْ
وأنتَ المداوى لكلِ الجروحِ
دواكَ أراه بحــــــقٍ دواءْ
هواكَ إلهي مــــلا كلَّ قلبي
وهذا الحنينُ بدا في صفاءْ
أناجيكَ ربى نهــــاراً وليلاً
تغنيتُ عمري بلحنِ الوفاءْ
على : الله
الله ما أجمل هذا شيخنا .
الشيخ عطوة :
بوركت يا على .
على : أكمل يا
سيدي .
الشيخ عطوة : أكتفي
بذلك يا على وسوف أهديك نسخاً من دواويني لتقرأها وتطلع عليها ، بل وأيضاً سأعطيك
بعضاً من الكتب لتتعرف على الصوفية الحقيقية .
فالتصوف هو
الذي اختص بمعالجة الأمراض القلبية وتزكية النفوس والتخلص من صفاتها الناقصة الذميمة.
على : أود أن
أعرف مشاهير الصوفية قديماً وحديثاً شيخي .
الشيخ عطوة :
سأذكر لك بعضاً منهم على سبيل المثال :
الحسن البصري
، إبراهيم بن أدهم ، عبد القادر الجيلاني ، أبو الحسن الشاذلي ، أبو العباس المرسى
، أحمد الرفاعى ، أبو حامد الغزالي ، أبو اليزيد البسطامى ، جلال الدين السيوطى ، عبد
الحليم محمود،إبراهيم الباجوري، محمد متولي الشعراوي، مصطفى محمود، محمد ماضي أبو
العزائم ، على جمعه ،أحمد عمر هاشم ، أحمد الطيب .
على : أشكرك شيخي
الغالي ، ولكن قل لي قولاً واحداً عن الصوفية .
الشيخ عطوة : قال الإمام أبو نعيم الأصبهاني رضي الله تعالى عنه:" الصوفية: أرباب
القلوب، المتسوّرون بصائب فراستهم على الغيوب، المراقبون للمحبوب، التاركون
للمسلوب، المحاربون للمحروب، سلكوا مسلك الصحابة والتابعين، ومَن نَحَى نحوَهم من
المتقشِّفين والمتحققين، العالمين بالبقاء والفناء، والمميزين بين الإخلاص
والرياء، والعارفين بالخطرة والهمة والعزيمة والنية، والمحاسبين للضمائر،
والمحافظين للسرائر، المخالفين للنفوس، والمحاذرين من الخنوس، بدائم التفكر، وقائم
التذكر؛ طلباً للتداني، وهربا من التواني.
لا يستهين بحُرمتهم إلا مارقٌ، ولا يَدَّعِي أحوالَهم إلا مائِق، ولا
يعتقِد عقيدَتهم إلا فائِق، ولا يَحِنّ إلى مُوالاتهم إلا تائِق؛ فهم سُرُجُ
الآفاق، والممدود إلى رؤيتهم بالأعناق.
بهم نقتدي، وإياهم نوالي إلى يوم التلاق "
اهـ [الحلية:27–28].
على : إن ما تقوله يصعب علىَّ فهمه شيخي .
الشيخ عطوة : عندما تبحر بسفينة العلم في العلم الصوفي سوف تتعلم كل شئ يا
بنى ، ولا تنسى أنك ما زلت صغيراً .
على : سأعكف على هذه الكتب وسأنهل منها الكثير والكثير شيخي .
الشيخ عطوة : بارك الله فيك يا بنى .
على : وبارك الله لنا في عمرك سيدي .
الشيخ عطوة :
إذاً هيا بنا نستكمل قراءتنا لكتاب الله تعالى .
فيموج المكان
بصوت الأطفال ويُسمع لصوتهم طنيناً كطنين النحل حول خليته .
ويغلق الستار
على هذا المشهد العظيم .
*************************
المشهد الثاني
********
تتهادى
الأعوام على رِسلها وتنقضي السنين وعلىٌ يصبح شاباً بارع الجمال يشار له بالبنان ،
تخرج من كلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر الشريف ، ولكنه كان منطوياً يعيش مع
نفسه في عالم أخر غير الذي نعيش فيه ، ليس له علاقات اجتماعية كثيرة مشغول بحب
الله ورسوله ، هائم في ملكوت الله سبحانه ، جالس معظم وقته في حجرته منفرداً
مناجياً مولاه مغرداً قائلاً :
إلهي عبرت سهولاً وبيد
بقلب محب وعقــل فريد
بكيت بعيني بكـاءً مريراً
وقلبي ينادى نداء المريد
وإذا به
يبكى بكاءً شديداً وينظر إلى السماء متذللاً ، فتسمع أمه صوته فتدخل إليه ، وقد
بلغت من الكبر عتياً ، ناظرة إليه قائلة له : يا بنى هون عليك ، ما الذي يبكيك
هكذا ، لقد انتهيت من دراستك وكنت متفوقاً ، ولكني لا أعلم ما بك ، لا تأكل إلا
قليلاً ، ولا تشرب إلا يسيراً ، ولا تتحدث معنا إلا نادراً .
فينظر
إليها ويضمها إلى صدره ويقبل رأسها ويقول لها :
أماه
أنتِ وأبى في قلبي وليس لي سواكما ، ولكن قلبي مشغول بالحبيب ، مشغول بالطبيب .
الحاجة
راضية : أنا لا أفهم ماذا تقصد يا بنى .
على :
يا أماه أنا مع الله ومن كان مع الله كان معه كل شئ ، يا أماه أنا لم أقصر تجاهك في
شئ أنتِ ولا أبى ، ولكن كل أملى أن تُخلى بيني وبين حبيبي أناجيه وأكلمه ويكلمني .
ثم ينظر
إلى أعلى باكياً مناجياً مولاه قائلاً :
فداكَ حياتي وقلبي فداكَ
فأنتَ الجليلُ بعيني أراه
لهذى الخلائقُ ربٌ عليمٌ
كفاه العليمُ بلسنٍ نداه
ينادى بليلٍ وفى الليلِ سِتْرٌ
لسانٌ ذكورٌ لربٍ يراه
أنا يا عظيمُ أراكَ عظيماً
وهذا الوجودُ بدى في علاه
خلقتَ الأنامَ فأنتَ القديرُ
هواكَ سلولٌ لقلبٍ حباه
وذكركَ ربى أراه ضياءاً
ملا كلَّ قلبي بنورٍ كفاه
أراكَ جليلاً وفوق الأنامِ
أراكَ جديراً كفاها سماه
أنا في رضاكَ أكونُ سعيداً
فأنتَ المراضي ضياك هواه
وهذا الفؤادُ أراه نَبُوضاً
بذكرى لربٍ أراه ملاه
أنا في الوجودِ أراكَ طبيباً
كفاكَ الطبيبُ لقلبٍ دواه
ثم يبكى بكاءً
حاراً ، فتنظر له أمه وتتعجب وتقول :
أنا لا أعلم
ماذا دهاك يا ولدى ، لله الأمر من قبل ومن بعد .
فيدخل أباه
وقد انحنى ظهره وشاب شعره منادياً على زوجته : يا حاجة راضية .. يا حاجة راضية .
الحاجة راضية
: ماذا تريد يا أبا على .
الحاج أحمد : اتركي
ابنك وشأنه ، من مثلكِ يحق لها أن تسعد بولدها ، لقد منَّ الله علينا بعلم صوفي
زاهد ، ونحن جميعاً نعيش تحت سقف هذا البيت ببركته .
الحاجة راضية
: علم صوفي زاهد !!
الحاج أحمد :
نعم يا أم على .
الحاجة راضية
: ماذا تقصد من هذا الكلام ، أصبحت لا أفهمك أنت ولا ولدك .
الحاج أحمد :
يا أم على سأشرح لكِ معنى هذا الكلام ...
الرجل الصوفي
من استسلم لله تعالى واتصف بمحاسن الأخلاق والصفات ، وزهد في كل متاع الدنيا ،
وكان في الصف الأول من العُباد لله رب العالمين ، وتسابق إلى فعل سائر الطاعات
والخيرات ، ولقد قال إمام الدعاة مولانا الشيخ محمد متولي الشعراوى رحمه الله عن
الصوفية بأنها مشتقة من أصل صافى وصوفىَّ إليه : أي بادله الإخاء والمودة ، وتكون
بتقرب العبد لربه بالحب والطاعة ، ويصافيه الله بقربه وكرامته .
الحاجة راضية
: كيف تعلمت ذلك كله يا حاج أحمد وأنت لم تأخذ قسطاً كافياً من العلم .
الحاج أحمد :
ألم تعلمي بأني صديق مقرب من الشيخ عطوة محفظ ابنك القرآن ، والشيخ عطوة تعلم
الصوفية من الإمامين الكبيرين الشيخ محمد متولي الشعراوى والشيخ عبد الحليم محمود ولا
تنسى القطب الكبير الإمام محمد ذكى إبراهيم مؤسس العشيرة المحمدية ولا تنسى أيضاً
تلميذهم الذي يسير على دربهم الشيخ محمد مراعى وكيل المشيخة العامة للطرق الصوفية
بالجمهورية بارك الله لنا فيه ، وغيرهم الكثير والكثير .
الأم ناظرة
إلى ابنها متحدثة معه : يا بنى كانت أمنيتي أن أزوجك وأحمل أولادك قبل وفاتي .
على : بارك
الله لنا في عمركِ يا أماه ، ولكني كيف أشغل نفسي بأشياء أخرى تلهيني عن ذكر الله
، يا أماه إن التصوف علم عظيم يجعل الإنسان دائم القرب من ربه الكريم ، وهذا العلم
موجود من عهد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، والسواد الأعظم من الصوفيين
يتزوجون وينجبون ، ولكني لا حاجة لي إلى ذلك الآن .
الحاجة راضية
: كيف ذلك يا بنى ؟
الحاج أحمد :
اتركيه وشأنه يا راضية .
الحاجة راضية
: كيف يا أبا على .. ألا تعلم أنه لا رهبانية في الإسلام .
على : هذا ليس
برهبانية ولكنه اتصال برب البرية ، واعلمي يا أماه أنني عندما أحس بأني أريد الزواج
سوف أخبركِ لتختاري لي من تريدين .
الحاجة راضية
: وابنة خالتك التى تنتظرك منذ زمن بعيد .
على : إني
أعتبرها كأخت لي .
الحاجة راضية
: إنها جميلة وليست بالذميمة .
على : أنا لم
أقصد أنها ذميمة ولكن مقصدي ومرادي أن هذا الحديث لم يأتي أوانه بعد .
الحاج أحمد : اتركيه
وشأنه يا راضية .
الحاجة راضية
: يا بنى اعزم وتوكل على الله ، والله يعينك ، ويهيئ لك الزوجة الصالحة التي تعينك
على طاعة ربك ، ويرزقك الذرية الطيبة التي تكون ذخراً لك في المعاد عند الله .
على : اصبري علىَّ يا أماه .
الحاج أحمد :
لماذا لا تفهمين ، تريدين الجدال فقط من أجل الجدال وأنتِ تعلمين أنه لا يريد ذلك
، هيا بنا واتركيه وشأنه .
فيتركاه
ويخرجان ، والأم تتمتم بكلمات اعتراضية غير مفهومة .
فينظر علىٌ إلى أعلى مناجياً مولاه قائلاً :
رأيتُ الأنامَ وفيهم لساني
محبٌ لربى ودوماً ذَكورْ
فذِكْرِى لربِّى يُنيرُ حياتي
وذاكَ الضياءُ بدا في الصدورْ
وقلبي ناداكَ بنبضٍ بليلٍ
ورفرفَ حباً كقلبِ الطيورْ
أنا في رضاكَ طرحتَ همومي
ومن فيضِ حبكَ عقلي يدورْ
فحبكَ سيلٌ دفوقٌ عظيمٌ
عنيفٌ شديدٌ كموج البحورْ
أنا يا رحيم أراكَ رحيماً
وأحيا فخوراً بهذا الشعورْ
ضياكَ أراه بدا في الأنام
فهزَّ الكَيانَ بشتَّى الأمورْ
فإني لَبَاكٍ على كلِّ ذنبٍ
وإني بحبكَ قلبٌ جسورْ
وإني لخائفُ يومَ الحسابِ
وخوفي شديدٌ ليومِ النشورْ
فربى عليمٌ بكلِ الجروحِ
وربى عليمٌ بما فى الصدورْ
فنعماه ربٌ أراه جديراً
بصنعٍ دقيقٍ وعقلٍ يحوْر
فقلبي ناداكَ وأنتَ العليمُ
بسرٍ خَفاءٍ وقلبٍ طَهورْ
ويبكى
بكاءً شديداً ...... ويغلق الستار .
********************
المشهد الثالث
********
يُفتح
الستار على الشيخ عطوة مُعلم على القرآن ومعه على وهما يجلسان على كرسيان مصنوعان
من جريد النخيل .
الشيخ
عطوة : كيف حالك يا على ؟
على :
بخير والحمد لله شيخي ، ما الأمر شيخي ؟! .
الشيخ
عطوة : خيراً يا على .. لقد أرسلتُ إليك لأحدثك في أمر هام بعدما جاءتني الحاجة
راضية لتشتكى لي منك
يا على
.
على :
والدتي تشتكى منى إليك شيخي !! .
الشيخ
عطوة : نعم يا على .. تقول أنك ترفض الزواج وهى تريد أن تسعد بك قبل وفاتها .
على : ولكني
لا أريد الزواج الآن شيخي .
الشيخ
عطوة : كيف يا على .. ألم تعلم أن هذا لا يجوز في الإسلام .. ألم تعلم ما جاء في
الحديث النبوي الشريف : عن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول " جاء ثلاثة رهط
إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه
وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد
غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال آخر
أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم إليهم فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم
لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس
مني " صحيح البخاري
.
على :
أعلم ذلك أستاذي ولكني لم أقل لها أنى لم أتزوج أبداً ، ولكني قلت لها أنى مشغول
الآن بما هو أهم ألا وهو الحب الأعظم وهو الحب الإلهي وهو أسمى درجات الحب شيخي .
الشيخ
عطوة : وما المانع أيضاً في أن تحب من حولك وتتزوج وتنجب .
على :
ليس هناك أي مانع شيخي ولكنه حب فاني وأنا أتطلع إلى الحب الباقي المستمر .. فأنا
أحب الباقي وأدع الفاني .
أحب الذي
يدوم إلى الأبد وأدع الذي ينتهي عند الموت ، ألم يقل رسولنا الكريم صلوات ربى
وسلامه عليه : " جاءني جبريل عليه السلام وقال لي : يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت
فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به ، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل ،
وعزه استغناؤه عن الناس" رواه الحاكم في مستدركه .
الشيخ
عطوة : ولكن يجب عليك يا على أن تضع نصب عينيك أن الزوجية سنة من سنن الله في
الخلق والتكوين ، وهي سنة عامة ومطردة ، لا يشذ عنها لا عالَم الإنسان ، ولا عالَم
الحيوان ، ولا عالم النبات ، الزوجية في النبات ، والزوجية في الحيوان ، والزوجية
في الإنسان ،
إذاً : هي
سنة كونية لقول الله عز وجل :
﴿
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾
الذاريات : 49 .
النبات كيف يتكاثر ؟ عن طريق التزاوج ، الحيوان
كيف يتكاثر ؟ عن طريق التزاوج ، والإنسان كيف يتكاثر ؟ عن طريق التزاوج ، فالزوجية
سنة مطردةٌ في عالَم الإنسان ، والحيوان ، والنبات ، وهي أصل في الخلق والتكوين ،
والله سبحانه وتعالى يقول : ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا
مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ﴾ يس : 36
حتى إن المادة ، حتى إن الجماد لو حللناه
لوجدناه مؤلفًا من ذرات ، وكل ذرة فيها نواة وكهارب ، وهذه الكهارب بعض شحناتها
إيجابي ، وبعضها سلبي ، إذاً هناك تكامل ، وربنا سبحانه وتعالى اختص الإنسان بنظام
رفيع في الزوجية ،
قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ
مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ الحجرات
: 13 .
انظر إلى الطفلة الصغيرة التي لا يزيد عمرها على
عام واحد ، إذا أرادت أن تلهو تأخذ الوسادة ، وتجعلها بنتًا صغيرةً ، تربط على
ظهرها ، وكأنها تبكي من علمها ذلك ؟ ابنة عمرها سنة واحدة أو سنة وزيادة تأخذ دور
الأمر، والطفل الصغير أيضاً له ألعاب تشبه ألعاب الرجال، يأخذ قضيباً ويركبه ،
وكأنه حصان ، معنى ذلك أن ربنا عز وجل حينما خلق الذكر والأنثى جعل فيهما صفات
نفسية ، واجتماعية ، وعقلية ، وجسمية أودعها الله في الذكر والأنثى .
وهل
يوجد أعلى من الأنبياء والمرسلين ؟ أعلى طبقة في المجتمع ، نخبة البشر، صفوة البشر
.
قال
تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ
عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ آل عمران : 33
الأنبياء والمرسلون وهم قمم البشر .
ربنا جل
جلاله قال:﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ
أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا
بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ الرعد
: 38
الزواج إذاً شيء مشرف.
وفي حديث الترمذي عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ
الْمُرْسَلِينَ: الْحَيَاءُ وَالتَّعَطُّرُ، وَالسِّوَاكُ، وَالنِّكَاحُ ) .
فهذه
سنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يسعنا إلا إتباع سنة النبي.
فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : ( مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ
بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ ، إِنْ أَمَرَهَا
أَطَاعَتْهُ ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا
أَبَرَّتْهُ ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ ) [ سنن
ابن ماجه]
فأعظم شيء تناله يا بنى بعد تقوى الله عز وجل
زوجة صالحة ، بعد طاعة الله عز وجل وبعد التقوى الزوجة المؤمنة.
فلقد جاء عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:( مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ ثَلاثَةٌ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ
ثَلاثَةٌ، مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ
الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الصَّالِحُ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ الْمَرْأَةُ
السُّوءُ، وَالْمَسْكَنُ السُّوءُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ ) [ رواه أحمد بإسناد صحيح ] .
على :
أعلم ذلك كله شيخي ولكن حبي لربى يطغى على كل حب وأخذ ينشد كلمات رابعة العدوية
قائلاً :
عرفت الهوى مذ عرفت هواك
وأغلقت قلبي عمن عداك
وقمت أناجيك يا من تـــــرى
خفايا القلوب ولســــــنا نراك
أحبك حبين ... حب الهوى
وحــــــــباً لأنك أهل لــــــذاك
فأما الذي هو حـــــب الهوى
فشغلي بذكراك عمن ســـــواك
وأما الـــــــــذي أنت أهل له
فكشــفك لي الحجب حتى أراك
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمـــــد في ذا وذاك
أحبك حبين ... حب الهوى
وحــــــــــباً لأنك أهل لــــــذاك
وأشتاق شوقين . شوق النوى
وشوقاً لقرب الخطى من حماك
فأما الذي هو شوق النوى
فمســـرى الدموع لطول نواك
وأما اشـــتياقي لقرب الحمى
فنار حياة خــــبت في ضياك
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمـــد في ذا وذاك
فرد عليه شيخه منشداً كلمات الإمام الشافعي
رضي الله عنه قائلاً :
إن لله عـبـاداً فطـنـا
تركوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيهـا فلما علمـوا
نظروا فيهـا فلما علمـوا
أنها ليست لحي وطنـا
جعلوهـا لجـة واتخـذوا
جعلوهـا لجـة واتخـذوا
صالح الأعمال فيها سفنا
يا بنى
سر في طريقك والله مؤيدك ، فوالله لم نصل حتى الآن إلى هذه الدرجة التى وصلت إليها
، بارك الله فيك ونفع بك وزادك علماً وأدباً .
ويغلق الستار على ذلك .
**********************
الفصل الثالث
*********
المشهد الأول
**********
يُفتح
الستار على الشيخ على وهو يجلس بين طلابه ومريدوه في المسجد يتعلمون وينهلون من
علمه ، وإذا بالشيخ على يمسك في يده كتاب الله تعالى ويقرأ قوله تعالى :
"وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ
خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا
تَعْلَمُونَ "
البقرة : 30 .
وإذا
بأحد طلابه يستأذنه في سؤال فيأذن له .
محمود :
شيخنا ألا تلاحظ في هذه الآية جدلاً دار بين الملائكة وربهم .. فكيف يتسنى لهم ذلك
؟
على : القرآن
الكريم , كتاب هداية , ومنهج إلهي يعلم الناس على اختلاف عقائدهم طرق التواصل
والتعايش من أجل بناء علاقات إنسانية تقوم على السلام بين الأفراد والشعوب ,
وذلك
لتحقيق مشيئة الله في خلقه ,هذه المشيئة التي عبر عنها عز وجل في رده على الملائكة
عندما أخبرهم وحاورهم بأنه سبحانه سيجعل
في الأرض خليفة .
فكان
ردهم سلبياً في مضمونه , لكنه أجابهم إني
أعلم ما لا تعلمون.
لهذا
حرص المنهج القرآني في كثير من الآيات الارتقاء بمستوى الدعوة إلى الله باستخدام ما نستطيع تسميته الجدل اللطيف
والبناء والهادف.
والآيات
الكريمة في كتاب الله بهذا الخصوص كثيرة وموزعة على مساحة القرآن الكريم .
ومنها قوله عز من قائل : " قُلْ مَنْ
يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ
إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " سبأ : 24
وبتدبر
هذه الآية الكريمة , نجد أن فيها تعليم لرسول الله (ص) ولمن اتبعه أدب الحوار مع
الأخر المخالف لمنهج الحق . طالما كان الهدف من الجدال هو القيمة النهائية ألا وهي
خير الدعوة , وشد الناس إليها بأسلوب لطيف
,من خلال تفعيل واستثارة الفطرة التي خُلق عليها الإنسان , فطرة التوحيد , التي
شابتها الإبائية والعرف والتقليد.
لنلاحظ
, لطف الحوار القرآني بقوله( وإنَّا )أي رسول الله ومن اتبعه أو (إياكم) أي الذين
كفروا ..الكافرون بالله .لعلى هدى أو في ضلال بعيد. وهنا لم يقل أنا وحدي ومن
اتبعني على هدى وأنتم في ضلال وانتهى الجدال والنقاش,كما يحدث اليوم من قبل
الجماعات الإسلامية ,وبعض المسلمين الذين لا هم لهم سوى تكفير الأخر ,مبتعدين عن
منهج القرآن في الدعوة إلى الله.
بل قال
لهم منهجنا ومنهجكم ,لا يتفقان ولا بد أن يكون هناك منهج على هدى ,ومنهج على ضلال.
ولم يطلب الخالق بجلاله أن نحدد لهم بصريح العبارة من هو على هدى ومن هو على ضلال
..أي ترك النتائج.. حتى تدور المسائل العقدية على العقول والأبصار ,لأن الرسول ومن
اتبعه يعلمون أنهم على حق.وأن منهج الله هو منهج الحق.فحتى لا يصاب الأخر بعزة
الجاهلية ,لهذا ترك لهم الباب مفتوحاً لأخذ الخيارات بحرية (لا إكراه في الدين).
وفي
قوله عز وجل : " قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ
عَمَّا تَعْمَلُونَ " سبأ
-25
لنلاحظ
أيضاً هذا التعبير الإلهي الذي هو في غاية اللطف في أدب الجدال.حيث نجد أن الحق لم
يقل أنهم هم الذين يجرمون ,بل جعل الجرم إن صح على المؤمنين ,وجعل العمل وإن فسد
مع الكافرين.كون المساواة في قول البشر
ومنهج البشر تقتضي القول ولا نسأل عما تجرمون.
لكنه
العليم الخبير الحكيم المعلم لم يقل ذلك تعليماً لرسوله وللمؤمنين , بل نسب الإجرام إلى الرسول والذين اتبعوه ..... لأن الله تعالى
يريدنا أن نتبع منهج اللطف والأدب في الدعوة إلى منهج الحق ,وهذا المنهج يتطلب من
المؤمنين التحلي بالصبر والحكمة وعدم التسرع والغضب الذي يؤدي في أغلب الحالات إلى
توتر الموقف والخروج عن أدب الجدال ,إلى استخدام الشتائم والسباب التي هي منهج
الشيطان لإبعاد الأخر عن منهج الحق.
محمود :
اتضحت الرؤية شيخنا ، بارك الله فيك ونفع بك .
أسعد : لي
سؤال شيخنا .
على :
تفضل يا أسعد .
أسعد : قال
تعالى في كتابه العزيز مخاطباً النساء : {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:
33] ، معنى ذلك أن زوجتي لا تخرج حتى للصلاة وتصلى في بيتها ؟
على : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) . (متفق عليه)
وقال
أيضاً صلى الله عليه وسلم : ( إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها ) . (متفق
عليه)
* لكن
أختي المؤمنة اسمعي قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : ( لو أدرك رسول الله
صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما مُنعت نساء بني إسرائيل ) (متفق عليه)
* وأنادى
على أخيتي الغالية وأقول لها :هذا كان في زمانها رضي الله عنها فكيف لو رأت زماننا
وما أُحدث فيه من أمور الزينة والتبرج والسفور والاختلاط المحرم .
* فلهذا
وضع العلماء قواعد وضوابط لخروج المرأة للمسجد وهي مأخوذة من كلام النبي الكريم الرءوف
الرحيم صلى الله عليه وسلم.
ومن هذه الضوابط هي :
* أن
تؤمن الفتنة بها وعليها.
قال صلى
الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار)
(صحيح
الجامع7517)
* أن
تخرج تَفِلةً أي :غير متطيبة .
قال صلى
الله عليه وسلم : ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات ) أبو داود في سننه
(1\155) .
وقال
أيضا: ( إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً ) . (صحيح مسلم)
* أن
تخرج متحجبة ملتزمة بالحجاب الشرعي غير متبرجة بزينة.
قال تعالى : {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ
الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}
[الأحزاب: 33]
* وشروط
الحجاب الشرعي :
الأول:
استيعاب جميع بدن المرأة (على الراجح) .
الثاني:
أن لا يكون زينة في نفسه.
الثالث:
أن يكون صفيقًا لا يشف.
الرابع:
أن يكون فضفاضا غير ضيق.
الخامس:
أن لا يكون مبخرًا مطيبا.
السادس:
أن لا يشبه لباس الرجل.
السابع:
أن لا يشبه لباس الكافرات.
الثامن:
أن لا يكون لباس شهرة
* إفراد
باب خاص للنساء في المساجد، يكون دخولها وخروجها منه، كما ثبت الحديث بذلك في سنن
أبي داود وغيره .
تنبيه:
*تخرج
النساء من المسجد قبل الرجال، وعلى الرجال الانتظار حتى انصرافهن إلى دُورهن، كما
في حديث أم سلمة رضي الله عنها، في صحيح البخاري قالت ( كان رسول الله (إذا سلم
قام النساء حين يقضي تسليمه، ومكث يسيرا قبل أن يقوم» قال ابن شهاب: «فأرى والله
أعلم أن مكثه لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم ) .
* فضل
صلاة المرأة في بيتها :
ثبت في (صحيح ابن خزيمة 1689):
( عن
امرأة أبي حميد الساعدي أنها جاءت النبي فقالت :
يا رسول
الله ، إني أحب الصلاة معك، فقال: ( قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك
خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير
من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي ) ، فأمرت،
فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل )
.
أسعد :
بوركت شيخي .
عبد الله
: لو تسمح لي بسؤال شيخي .
على :
تفضل يا عبد الله .
عبد الله
: من شدة حبي للصحابة رضوان الله عليهم ، هل يجوز لي أن أؤدي فريضة الحج وأهب
ثوابها لأحدهم ؟
على : أولا
:
نسأل
الله تعالى أن يزيدك حباً للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ، وأن يكتب لك
عظيم الأجر والثواب عليه .
واحرص
أن يكون حبك هذا دافعاً لك للإقتداء بهم وإتباعهم .
وذلك
يقتضي مراقبة الله تعالى في السر والعلن ، وإخلاص القلب من شوائب الشرك والرياء
والحسد والعجب والكبر ، وتذليل النفس لحسن العبودية لله تعالى .
ثانيا :
قد ورد
من الأدلة الشرعية ما يدل على جواز إهداء ثواب بعض القربات إلى الأموات .
لكن
إهداء ثواب الأعمال إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى صحابته الكرام ليس من
المندوبات المستحبات ، وذلك لوجوه :
الأول :
أننا لم نجد من السلف مَن فعل ذلك ، وكل خير في إتباع من سلف ، وكل شر في ابتداع
من خلف ، بل لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم بأحد من أصحابه ، فقد ماتت زوجته
خديجة وعمه حمزة قبل فريضة الحج ، ولم ينقل أنه
كلَّف
من يحج عنهما ، أو يتصدق عنهما ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم .
الثاني
: قد ذكر الله تعالى في سورة الحشر فضيلة المهاجرين والأنصار ، ثم أثنى على من
جاؤوا بعدهم بقوله : (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا
تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ
رَحِيمٌ) الحشر/10 .
فلم
يذكر شيئا غير الدعاء لهم ، مما يدل على أن الدعاء هو أفضل ما يهدى للمسلم ، لا
الصلاة ، ولا الصدقة ، ولا الحج ، ولا غير ذلك من الأعمال .
الثالث
: أن من يهدي الثواب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفد شيئاً إلا أنه حرم
نفسه من ذلك الثواب ولم ينفع النبي صلى الله عليه وسلم بشيء ، لأنه صلى الله عليه
وسلم له مثل ثواب أمته في كل عمل صالح ، لأنه هو الذي دلهم عليه .
قال شيخ
الإسلام ابن تيمية في رسالة له عن إهداء الثواب إلى النبي صلى الله عليه وسلم
(ص/125-126) :
"
لم يكن من عمل السلف أنهم يصلُّون ويصومون ويقرؤون القرآن ويهدون للنبي صلى الله
عليه وسلم ، كذلك لم يكونوا يتصدقون عنه ، ويعتقون عنه ؛ لأن كل ما يفعله المسلمون
فله مثل أجر فعلهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً"
وقال
الشيخ ابن عثيمين في "الشرح الممتع" (3/213) :
"
بعض المحبِّين للرَّسُول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يهدون إليه القُرَب ؛ كالختمة
والفاتحة على روح محمَّد كما يقولون وما أشبه ذلك ، فنقول : هذا من البدع ومن
الضلال .
أسألك
أيُّها المُهْدي للرسول عبادة ، هل أنت أشدُّ حُبًّا للرسول عليه الصَّلاةُ
والسَّلامُ من أبي بكر وعُمر وعُثمان وعليّ ؟
إن قال
: نعم ، قلنا : كذبت ، ثم كذبت ، ثم كذبت ، ثم كذبت .
وإن قال
: لا ، قلنا : لماذا لم يُهْدِ أبو بكر والخلفاء من بعده للرسول صلى الله عليه
وسلم ختمة ولا فاتحة ولا غيرها ؟ فهذا بدعة .
ثم إن
عملك الآن وإن لم تُهْدِ ثوابه سيكون للرَّسول صلى الله عليه وسلم مثله ، فإذا
أهديت الثَّوابَ ، فمعناه أنك حرمت نفسك من الثواب فقط ، وإلَّا فللرسول صلى الله
عليه وسلم مثل عملك أهديت أم لم تُهْدِ " .
وجاء في
"فتاوى اللجنة الدائمة" (9/58-59) :
"
لا يجوز إهداء الثواب للرسول صلى الله عليه وسلم، لا ختم القرآن ولا غيره ؛ لأن
السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم لم يفعلوا ذلك ، والعبادات
توقيفية ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) ،
وهو صلى الله عليه وسلم له مثل أجور أمته في كل عمل صالح تعمله ؛ لأنه هو الذي
دعاها إلى ذلك ، وأرشدها إليه ، وقد صح عنه صلى الله
عليه
وسلم أنه قال : ( من دل على خير فله مثل أجر فاعله )
عبد الله
: سلمت شيخي من كل سوء .
إسلام :
معذرة شيخي لي سؤال .
على :
لا عليك يا إسلام تفضل .
إسلام :
أسأل عن صحابي دخل الجنة ولم يصلى ركعة واحدة .. فمن هو ؟
على : إنه
الصحابي الشهيد عمرو بن ثابت الأشهلي الأنصاري .. خاله الصحابي الجليل “حذيفة بن
اليمان” (رضي الله عنهما)، شق طريقه إلى الجنة دون أن يصلي في الإسلام صلاة واحدة،
فقد كان شاكاً في الإسلام متردداً في قبوله والدخول فيه، وكان قومه من المسلمين
يدعونه إلى الإسلام فيقول: لو أعلم ما تقولون حقاً ما تأخرت عنه. ثم جاءه الإسلام
فنظر وتفكر وتدبر فاهتدى وشرح الله صدره للإسلام، وقذف في قلبه نور الإسلام
والإيمان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أثناءها على أهبة الخروج مع المسلمين إلى
غزوة أحد لمحاربة قريش، فسارع “عمرو بن ثابت” الذي كان يلقب بـ “الأصيرم” يحمل
سلاحه وتوجه إلى رسول البشرية صلى الله عليه وسلم معلناً إسلامه وإيمانه وهو في
طريقه إلى الجهاد عن الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم وانتظم في صفوف المجاهدين،
وكثيرون من صحابة النبي الكريم لا يعلمون بإسلامه واستشهد في تلك المعركة ولما
ذكروه للرسول الله قال هو في الجنة .
فاللهم
إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من
قول وعمل، وأعوذ بك أن أقول زوراً أو أغشى فجوراً أو أكون بك مغروراً. اللَّهُمَّ
إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع،
اللهم إني أعوذ بك من هؤلاء الأربع.
الحضور
جميعهم : اللهم أمين ، وبارك الله فيك شيخنا .
على :
أشكركم جميعاً وموعدنا إن شاء الله كل يوم من بعد صلاة العصر وحتى أذان المغرب ،
وهيا بنا لنرفع الأذان ، ويغلق الستار على كلمة الله أكبر مدوية خفاقة .
********************
المشهد الثاني
*********
يُفتح
الستار على بيت على وجرس الباب يدق ، وتذهب الحاجة راضية لتفتح الباب ، وإذا
بأختها عائشة وابنتها أسماء وابنها عمر ، فترحب بهم وتدخلهم ويدور بينهم هذا
الحوار ..
الحاجة
راضية : مرحباً بأختي الغالية وابنتها الجميلة وولدي عمر .
عائشة :
مرحباً بكِ أختي الكبرى وأمي بعد أمي .
الحاجة
راضية : كيف حالكِ يا أسماء ؟
أسماء :
بخير خالتي .. أين على ؟
الحاجة
راضية : علىٌ بغرفته يتلوا ورد يومه من القرآن والدعاء .
عمر : خالتي
إني لأعجب من أمر على ، منذ أن كنا أطفالاً صغاراً وهو مع نفسه ولا يحب اللعب معنا
، حتى ونحن في الكلية معاً كان لا يحدثني أبداً ، ولما سألته ، قال لي بأني مستهتر ولا أحترم ديني ، مع أنى أصلى
جميع الفروض وأعرف ما لي وما علىَّ .
الحاجة
راضية : علىٌ يا بنى له طقوس خاصة به ولا يسمح لأحد أن يتدخل فيها حتى أنا ، كان
الله في عونه .
أسماء :
ولكن يا خالتي لابد وأن يكون منفتحاً ومقبلاً على الدنيا ، الدنيا فيها أشياء
جميلة " ولا تنسى نصيبك من الدنيا " .
الحاجة
راضية : معكِ حق يا بنيتي .
أسماء :
إني مشتاقة لرؤيته يا خالتي .
الحاجة
راضية : لاحقاً يا بنيتي ، بعدما تدخلين معي المطبخ أنتِ وأمكِ لنقوم سوياً بتجهيز
وجبة الغذاء ، لأني أصبحت لا أقوى على ذلك وحدي .
أسماء
وأمها : هيا بنا .
عمر
وأنا سأدخل إلى على لأتحدث معه حتى موعد الغذاء .
الحاجة
راضية : تفضل يا بنى البيت بيتك .
عمر
يدخل لحجرة على ويسلم عليه ويصافحه ويدور بينهما هذا الحوار :
عمر :
كيف حالك أخي وابن خالتي وزميلي العزيز .
على :
بخير وفى أحسن حال أخي .
عمر :
ماذا دهاك يا على ؟
على :
لا شئ أنا بخير والحمد لله .
عمر :
كيف ذلك يا على ؟ ، من يراك يقول أنك تخطيت الخمسين ، أطلقت لحيتك وظهرت التجاعيد
على وجهك ، ومعظم أوقاتك مشغولاً حزيناً .
على :
وما فائدة الأيام إن لم نستغلها في مرضاة الله سبحانه .
عمر : أود
أن أكون صوفياً مثلك ولكني ما زلت لست مقتنعاً بهذه الطريقة ولا هذا العلم .
على : التصوف
ليس كلمة تقال " أنى صوفي " ولا نشيد أو مدح بل إن التصوف فعل وعلم.
يجب أن
تتفقه في دينك وتتعلم أحكامه وتقرأ القرآن وتعرف سنة رسولك محمد صلى الله عليه
وسلم وتذكر الله في كل شئ وعند كل شئ تفعله ... عش مع الله يكون الله معك ...
عمر :
لا تنسى يا على أنى حاصل على نفس مؤهلك العلمي الأزهري ، ولكن مشكلتي أنى لست
متعمقاً فيه كما ينبغي .
على :
باب العلم مفتوح على مصراعيه يا عمر .
عمر :
ما رأيك يا على فيمن يقولون عند الصوفية :
" كن
بين يدي شيخك كالميت بين يدي مغسله "
فهل يصح
ذلك ؟
على :
يا عمر إن الصوفيين رجال هائمون بأرواحهم في ملكوت رب العالمين وهم رجال صالحون
ولا ننكر وجود عباد لله صالحين يعبدون الله سبحانه وتعالى
حق عبادته ويتقربون إلى الله عز وجل بكل شئ يملكونه ويفنون أنفسهم في سبيل
الله وطاعته ونصرة دينهم ويفتح الله عليهم وينير لهم طريقهم وهناك
دليل على ذلك في القرآن الكريم وهى قصه سيدنا موسى والعبد الصالح في قوله
تعالى : ( فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ
عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ
مِن لَّدُنَّا عِلْماً ) الكهف
: 65 .
وأيضاً قوله تعالى في قصة سيدنا سليمان عليه السلام : ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) النمل : 40 .
فهذه أدلة على أن هناك عباداً لله صالحين ، ولكن لا تنسى أن هناك " متصوفة " جهال ومرتزقة اندسوا داخل هذه الطريقة وبأفعالهم وبأقوالهم المشينة أساءوا للصوفية ، فيجب غربلة وتنقية هذه الطريقة من هؤلاء الدخلاء حتى لا يشوهوا صورة الصوفيين عامة وحتى لا يعكروا صفو الأحباب الذاكرين لله سبحانه .
وأيضاً قوله تعالى في قصة سيدنا سليمان عليه السلام : ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) النمل : 40 .
فهذه أدلة على أن هناك عباداً لله صالحين ، ولكن لا تنسى أن هناك " متصوفة " جهال ومرتزقة اندسوا داخل هذه الطريقة وبأفعالهم وبأقوالهم المشينة أساءوا للصوفية ، فيجب غربلة وتنقية هذه الطريقة من هؤلاء الدخلاء حتى لا يشوهوا صورة الصوفيين عامة وحتى لا يعكروا صفو الأحباب الذاكرين لله سبحانه .
عمر : ماذا
فعل شيخك للإسلام وما الذي أضافه له ؟
على :
اعلم يا عمر أنى أتبع علماء ربانيين يعرفون الله حق المعرفة ويخدمون الدين بكل ما
أوتوا من قوة ، ولو أنى رأيت غير ذلك ما اتبعتهم ولا سرت في دربهم ، ومشايخي ليس
عليهم غبار ومنهم : الإمام عبد الحليم محمود ، والإمام محمد متولي الشعراوى ،
والإمام أحمد الطيب ، والإمام على جمعه ، والإمام أحمد عمر هاشم ، وغيرهم .
فأنا
أتبع هؤلاء الأعلام الذين هم شموس في سماء وسطية الإسلام .
عمر :
أنت على حق يا على ، إذاً قل لي :
ما هي
آليات التصوف ومنهاجه ؟
على : التصوف
نظام سير إلى المعبود الحق لا يكون إلا بخمس ( الشيخ الواصل – غير الواصل ضرره
أكثر من نفعه – والهمة والزاد ( التقوى ) والرفاقة ( إخوان الطريق ) ثم السلاح (
وهو الأوارد والأسرار ) .
وفي
التصوف أمور لا توجد في غيره : كثرة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم مناماً ويقظة (
من رآني في المنام فسيراني في اليقظة فإن الشيطان لا يتمثل بي ) بصحيح البخاري .
وكثرة الكرامات وكثرة الخوارق .
والأدب
مناط التصوف : لذا قالوا اجعل أدبك طعاماً وعلمك مِلحاً . ومن لا أدب له فلا حظ له
.
الصوفي
غير المتصوف فهذا الأخير قصد البحر والأول ركبه فغرق فيه ، والمتصوف متكلف والصوفي
متكيف .
وبالجملة
فالتصوف طريق عظيم الفائدة جليل العائدة تزهل في بحره العقول وتدك في شطه أعناق
الفحول ، وهو السبيل المطهر للسير لملك الملوك بنفس زاكية تقية وقلب سليم من
الشكوى والأذية وروح سكنت بالرضا في الذات المهدية فأمدتها بوصفها من معارف وهي
عرّافة دراكة لا تروقها إلا الحضرات العلية .
فيا من
تريد سلوك هذا الطريق السني أقبل عليه بإرادة ماضية لا تعرف الإلتفات وصلي في
دياجير الدجى بعض ركعات وسل الولي شيخاً وأصلا يقطع بك العقبات – فلا تضيع عمرك في
فص واحد من الإصبع ودع الشيخ يقطع بك الثلاثة فصوص في أيسر وقت للوصول ، وكم و كم
من فتح عينه لحظة المبايعة فخرق بصره السبع الطباق وصار يجتمع في ليلته بالأنبياء
من لدن آدم إلى سيد السادات وأتته الدنيا راغمة وصار من أهل الفتح والكرامات والعلوم
الزاخرة وهيهات لغيرهم هيهات ..
عمر : رائعٌ
يا على إذاً كيف تأسس علم التصوف ؟
على : في
العصر الثالث على يد الإمام أبي القاسم الجنيد ( سيد الطائفة ) تلميذ سيدي سري
السقطي تلميذ سيدي حبيب العجمي تلميذ سيدنا الحسن البصري أفضل التابعين . وقد بين
الإمام الجنيد أصل الطريق وفصله وذكر أنه مشيّد على الكتاب والسنة ، وقال هما
جناحان يطير بهما السالك في هذا الطريق إلى المحبوب ، وأن لا يجعل للهوى طريقاً
إلى قلب السالك فلا يقبل من قلبه خطرة إلا بشاهدي عدل من كتاب وسنة وهكذا فقد أسس
التصوف على العلم الصحيح وصار التصوف قرين العلم إلى يومنا هذا لا يضره من زاغ ومن
انحرف فلا يضر إلا نفسه ولا يرد أمره إلا إليه لا إلى التصوف ، وجعل الفقه شرطة
صحة في التصوف يلزم من وجوده وجود ومن عدمه عدم ، فمن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق
ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق .
حتى أن
غالب الأشياخ لا يعطي مريده طريق القوم حتى يختم عنده كتاب الفقه ( عبادات
ومعاملات ) وطائفة من السير والأخلاق فضلاً عن حفظ القرآن المجيد وتجويده بل أن
بعضهم كالشيخ الفرضي في أم طلحة – جهة المناقل – كان لا يقبل أن ينسب إليه تلميذ
يقال هذا تلميذ الفرضي ما لم يحفظ القرآن ويختم عنده كتاب الفقه ختمة واحدة على
الأقل وكانوا نحو من ألفي تلميذ .
عمر : وما
هدف هذا العلم يا على ؟
على : هدفه
: تهذيب النفوس وتصفية القلوب وتزكية الأرواح ، على يد شيخ واصل مأذون متصل النسب
المعنوي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فينقل مريده من درك القطيعة إلى المنازل
الشريفة ، ويأخذ بيده بعين البصيرة فيقطع به عقبات النفوس السبعة بالأذكار
والأخلاق والعبادات من الأمارة إلى اللوامة إلى الملهمة إلى المطمئنة إلى الراضية
ثم المرضية أما الكاملة فنفوس الأنبياء عليهم السلام .
ويعطيه
من جرعات الأذكار ما يناسب حاله وقوته ويسلك به مفاوز الطريق حتى تظهر له الشوارق
والبوارق وتلوح له الأنوار ويكاشف بالأسرار فإن جمع الطالب همه وصدق في طلبه وقوي
عزمه و جرد لشيخه محبته وسبقت له العناية هبت عليه رياح الصبا من حظيرة القدس التي
هي أسفل العرش فتطرق ذاته من أجزائه الـ 360 مشحونة بمنن عشرة ( فتوح وفيوض وأسرار
وأنوار ومعارف وعلوم وفهوم وكرامات وخوارق ودقائق ) فيصير ينتقل من مقام إلى مقام
أبد الداهرين بحيث يكون ما يجده في المقام الجديد من المنن كالقطرة إلى البحر
المحيط إذا ما قورن بالمقام السابق !! ، فحينئذ لا يعجزه بإذن الله شيء ويصير
سابحاً في بحر يأخذ منه ما يريد من حيث يريد وكيفما يريد حتى يبلغ مبلغ الرجال
فيكون له بكل تلاوة للقرآن المجيد فتحاً بمعنى جديد ولو ألقيت مذاهب الشريعة
المتبوعة والمندرسة في لجج البحار لاستخرج مسائلها من بحر قلبه اللجي ، حتى يعطى
علم الأوائل والأواخر فضلاً من رب رحيم وأسوة بسيد الأولين والآخرين . ويصير لمثله
من العلوم 200 ألف علم يحتار علماء الرسوم في ذكر عشرها اسماً لا رسما !!! وبهذا
الصفاء يكون الصوفي قد عاد من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر الذي هو جهاد النفس
كما في الحديث الشريف ، ومن عرف نفسه فقد عرف ربه كما في بعض آثار العلماء
عمر : قل
لي ما هي غاية علم التصوف ؟
على : المعلوم
أن غاية التصوف هو رضاء الحق تبارك وتعالي وحبه والاتصال به والفناء فيه ، وهذه
الغايات لا تتأتي إلا بمتابعة رسوله الكريم وشريعته الغراء ، ومجاهدة عظيمة للنفس
حتى تصل للغاية المنشودة ، وأنه لا يأتي أن يوجد تصوف بدون إتباع كامل لتعاليم
الشرع وإقتداء تاماً برسوله الكريم ، وذلك تحقيقاً لقوله سبحانه وتعالي :
( لقد
كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) . الأحزاب : 21 .
فهذا هو
التحقق ومن لا يصل لهذا المقام لا يأتي منه شئ - بل ربما تنعكس الصورة .
والتصوف
بشكل عام علم يختص بتزكية النفس من العلل الظاهرة والباطنة فإذا علمت العلل
الظاهرة وكيفية علاجها علي يد الفقهاء فإن الأمراض الباطنة لم يتصدر لعلاجها إلا
هؤلاء القوم ، وبما أننا مأمورون باتقاء الفواحش ما ظهر منها وما بطن فعلينا أن
نصحب من يخلصنا ويعالجنا من هذه الأمراض وإلا متنا مصرين علي الكبائر دون أن ندري
، ولذا قال الإمام الغزالي أن صحبة هؤلاء فرض عين ، وذلك امتثالاً لقوله تعالي (يا
أيها الذين امنوا اتقوا الله وكونوا مع الصالحين ) . التوبة : 119 .
فعلي
المريد أن يستوثق من الشيخ الذي يسلمه زمام أمره حيث أن الطريق وعر وشائك ولا يصلح
له إلا الخبير المجرب الواصل الموصل ، وإلا داهمه الخطر بتعرض خير ما في جسم
الإنسان للفساد وهو القلب ، فإذا كان الدليل من غير أهل هذه الصنعة فالأولي ترك
تسلق الجبال وملازمة البطاح حيث أن السقوط أقل ضرراً .
عمر : ما
المقصود بالتربية عند الصوفية ؟
على : التربية
لغةً هي التعهد بما يغذي الإنسان وينميه ويؤدبه ، وعند القوم هي زيادة الغذاء
الروحي للمريد من أوراد وأذكار وما يرد عليه من واردات ، فهو ربيب شيخه وأستاذه في
الطريق ومربيه .
فالتربية
في القرآن الكريم تتسم بالشمولية ولا تقف عند المعني الضيق للتربية فهي تهتم بالفرد
والجماعة ، وتعني بالعقيدة والعمل وكيفية العمل والإخلاص فيه وهو جوهره
و
باختصار تشمل كل ميادين الحياة وجوانب النفس البشرية .، وقد حرص الرسول صلي الله
عليه وسلم علي تربية الأمة تربية قرآنية – حيث أن هذه الأمة هي التي يقع علي
عاتقها عبء التبليغ ونشر الدين ، ويبدأ مشوار التربية عند أهل الطائفة الصوفية
بالتوبة النصوح من كل الذنوب والعزم علي عدم اقتراف الآثام والزلات في المستقبل.
عمر : إذاً
فما الأساس الذي قام عليه هذا العلم ؟
على : إن
أساس هذا العلم الرفيع "التصوف" هو الوحي السماوي الذي جاء به جبريل
عليه السلام والذي يتمثل في مقامي المراقبة والإحسان انطلاقاً من قول الله تعالى :
( إن
الله كان عليكم رقيباً ) النساء : 1
وامتثالاً
لقوله تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله مع المحسنين )
العنكبوت : 69
وإن كل
علم من العلوم له واضع لأصوله شارحا لحقائقه، وهذا العلم " التصوف" وضعه
وبينه رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عندما سأله جبريل عليه السلام عن
الإحسان ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( الإحسان إن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن
تراه فإنه يراك ) .
(رواه مسلم عن أبي هريرة )
وعلم
التصوف يدور حول تهذيب النفس وطهارتها واستجابة الجوارح وطواعيتها لله تعالى ونقاء
القلب ونور نيته وصفاء الروح وإشراقها والاستمداد من أنوار وأسرار الله سبحانه
وتعالى حتى يصل الصوفي إلى درجات الكمال البشري بإذن الله تعالى ويفوز بسعادة
الداريين وعلم التصوف في أصوله وفروعه ومسائله وإشاراته وحركاته مستمدة من القرآن
الكريم والسنة الشريفة ومن عمل الصحابة رضي الله عنهم، والصوفية أخذوا أقوالهم
وأفعالهم وأحوالهم وتوجيهاتهم وإرشاداتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وجد
هذا العلم " التصوف" مع أسانيده وإشاراته وإجازة العلماء والفقهاء
والمحققين له إلا أن بعض المعترضين والمشككين فيه أُشكل عليهم من حقائقه فألحقوا
به تهمة التكفير والتبديع .
فما كان
على الصوفية إلا الذب عن هذا العلم " التصوف" ؛ خاصة العلماء والباحثين
والمشايخ العاملين بجمع المفاهيم الصحيحة عن التصوف وعن مقامات وأحوال الصوفية
المؤيدة بالبرهان الصادق الساطع والدليل القاطع من كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة
رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة رضي الله عنهم والتابعين
ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وها نحن
يا عمر نقدم "جهد المقل " ونسأله تعالى التوفيق والمدد لما وجدنا من
تدليس وتلفيق في بعض الكتب عن التصوف والصوفية حتى نثبت أن منهج التصوف متفق مع
الإسلام.
عمر :
ما شاء الله عليك يا ابن خالتي ، ولكن تقولون بأن التصوف طريق الوصول إلى الله ..
كيف يكون ذلك ؟
على : يقول
المتصوفة إن السير في طريق الوصول إلى الله تعالى صفة المؤمنين الصالحين ، ومن أجل
ذلك جاء النبيون والمرسلون وإلى ذلك يدعوا العلماء والمرشدون كي يرتقى الإنسان
خصيص المادية والحيوانية إلى مستوى الإنسانية والملكية حتى يتذوق لذة الأنس والقرب
من الله عز وجل .
وإن
الطريق إلى الله واحد في الحقيقة ، لكن تتعدد المناهج العلمية ، وتتنوع أساليب
السير والسلوك تبعاً للاجتهاد وتبدل الزمان والمكان ولذلك تعددت الطرق الصوفية .
فطريق
الوصول إلى الله لا تُنال بالتشهي ولا بالتمني ولكن تنال بالمجاهدات النفسية
ومواصلة الذكر والمراقبة والمحاسبة والخلوات ، وبالإيمان والتقوى والصدق والإخلاص
. فالسالك المخلص لا يطلب المقامات ولا يقصد المراتب والكرامات وإنما هي منازل
يقطعها ليصل إلى الله تعالى وكما أن لكل طريق حسي مخاطر وعوائق وعقبات فإن في
الطريق الروحي مزالق وصعوبات وعقبات كثيرة لذلك تأكد دور المرشد القائد العارف
لتلك المزالق ليقيل العثرات وينبه من الغفلات ، ويرغب في القربات من رب الأرضيين والسماوات
، قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد :
ألا كل
شئ ما خلا الله باطل . .
فالصوفية
قد جعلوا في سيرهم إلى الله قدوتهم ورائدهم سيد الوجود وعلم الشهود وإمام المتقين
محمداً صلى الله عليه وسلم فنهجو نهجه .
وربط
الصوفية حاضرهم بذلك الماضي التليد في التأسي التام والانقياد المشرق لرسولنا
الكريم صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده ثم توالى انتظام ذلك العقد الفريد بلا
انقطاع إلى يوم القيامة كصمام أمان للوصول إلى الله سبحانه وتعالى . وصولاً متصلاً
بسند الرسول صلى الله عليه وسلم .
ومن
المقامات التى يمر بها السالك في سيره إلى الله هي (التوبة ) . فمن لا توبة له لا
سير له وهى منطلق السالك فلا سبيل إلى التحلي بالفضائل إلا بالتخلي عن الرذائل .
يقول
الله عز وجل : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً
نَصُوحاً ) التحريم : 8 .
ويقول أيضاً
:{ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ } [ النور : 31 ] .
ويقول
صلى الله عليه وسلم : يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم
مائة مرة .
ولتوبة العبد
ثلاثة شروط وإن كانت تتعلق بحقوق الآخرين فلها أربعة شروط
فالأولى
شروطها الإقلاع عن المعصية في الحين .
والثانية
الندم على فعل المعصية .
والثالثة
العزم على أن لا يعود إليها .
والثانية
تزيد عليها البراءة من حقوق صاحبها واسترضائه ، ومن شروطها كذلك ترك قرناء السوء
وهجر الفسقه ولا تصحب إلا من ينهك عن طريق العوج .
وقال
أحد الصوفية الكبار عن التوبة (توبة العوام من الذنوب وتوبة الخواص من الغفلة ) .
عمر : ما معنى الزهد في الإسلام؟ وهل من الزهد أن ينام
الشخص على الأرض بدون فرش, ولو كان له سرير؟
وهل من
الزهد أن يأكل الشخص خبزا ويشرب ماء فقط, ولو كان يستطع أن يأكل من طعام آخر؟.
على : من
أدق تعريفات الزهد: أطمئنك يا عمر بأنه ليس معنى الزهد أن ترتدي ثياباً مرقعة، ولا
تأكل طعاماً خشناً، قولاً واحداً، ليس هذا هو الزهد، ولكن من تعريفات الزهد: ترك
ما لا ينفع في الآخرة، أما تعريف الورع: ترك ما تخاف ضرره في الآخرة، إن تركت
شيئاً يضر بآخرتك فأنت ورع، وإن تركت شيئاً لا تنتفع به في أخرتك فأنت زاهد.
وقال
بعض العلماء: الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولا لبس البالي.
قصر
الأمل، إنسان يخطط لعشرين سنة قادمة، وفي اليوم نفسه يوضع نعيه على الجدران !.
فليس
الزهد في الدنيا بتحريم الطيبات وكف النفس عنها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان
أزهد الناس ولم يحرم على نفسه شيئا أباحه الله له، وهذا كلام نفيس في حقيقة الزهد
وبم يتحقق ننقله من كلام العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ قال في مدارج السالكين
ما عبارته: وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: الزهد على ثلاثة أوجه الأول: ترك الحرام،
وهو زهد العوام.
والثاني:
ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواص.
والثالث:
ترك ما يشغل عن الله، وهو زهد العارفين.
ومن
أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن، أو غيره: ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا
إضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك وأن تكون في ثواب
المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو لم تصبك ـ فهذا من أجمع كلام في الزهد
وأحسنه وقد روي مرفوعاً.
فالزاهد
هو الذي يقنع بما آتاه الله ولا يأسى على ما فاته من الدنيا ولا يعلق قلبه بغير
ربه تعالى ويكون بما في يد الله أوثق مما في يده، ويعرض عن كل ما يشغله عن ربه
وعبادته، فالزاهد الحق هو من سلك مسلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فمثل هذا
هو الزاهد حقاً ، قال ابن رجب ـ رحمه الله: وقال الفضيلُ بن عياض: أصلُ الزُّهد
الرِّضا عَنِ الله عز وجل، وقال: القنوع هو الزهد، وهو الغنى.
فمن حقق
اليقين، وثق بالله في أموره كلها، ورضي بتدبيره له، وانقطع عن التعلُّق بالمخلوقين
رجاءً وخوفاً ومنعه ذلك مِنْ طلب الدُّنيا
بالأسباب المكروهة، ومن كان كذلك، كان زاهداً في الدُّنيا حقيقة، وكان من أغنى
الناس، وإنْ لم يكن له شيء من الدنيا.
عمر :
بوركت علياً ، ولتعلم أنى من الآن فصاعداً سأكون تلميذاً لك تعلمني وترشدني وتهديني
.
على :
نسأل الله سبحانه الهداية لنا جميعاً .
عمر :
اللهم أمين .
وإذا
بهما وهما يتحاوران تدخل عليهما أسماء .
أسماء :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
على
وعمر : وعليكِ السلام ورحمة الله وبركاته .
أسماء :
لقد طال حديثكما ، ألم نتناول طعامنا بعد ؟
على :
بكل تأكيد سنتناوله .
عمر :
سأذهب إلى دورة المياه .
على :
تفضل أخي البيت بيتك .
وأراد
أن يلحق به ، فتعرضه أسماء بذراعها ، فينظر إليها قائلاً لها : ما خطبك يا ابنة خالتي
.
وهو في
حيرة وخجل ، وينظر يميناً ويساراً .
أسماء :
ما بك يا على ، ألم تبارك لي .
على :
على أي شئ ، هل جاءك عريس ؟
أسماء :
لا يا على – وهى غاضبة – بل حصلت على كلية الدراسات الإسلامية من جامعة الأزهر ،
وكذلك والحمد لله ارتديت الحجاب .
على :
أهه ، نعم ، مبروك .
أسماء :
ألم تتذكر يا على لحظات صبانا عندما كنا نلعب مع بعضنا البعض ، قبل أن أسافر مع
والدي إلى الخليج .
على :
أتذكر كل شئ ابنة خالتي .
أسماء :
ابنة خالتي .. ابنة خالتي ، حتى اسمي لا تريد أن تجريه على شفتيك .
على :
لا ، أبداً .
أسماء :
ألم تعلم أن الأهل قد اتفقوا منذ زمن على زواجنا .
على :
أعلم يا أسماء .
أسماء :
الله الله ، لأول مرة أحس بجمال اسمي وهو يخرج من فمك .
على :
الأهل بالخارج ، هيا بنا لنتناول الطعام معهم .
أسماء :
أنت طعامي وشرابي وكل حياتي يا على .
على :
يا أسماء .. أردت أن أخبركِ بشئ .
أسماء :
وما هو يا ضى عين أسماء .
على :
أنا لا أفكر في الزواج الآن .
أسماء :
ولماذا ؟
على : لأني
مشغول بما هو أهم .
أسماء :
وهل هناك ما هو أهم من أن يكون لك زوجة وأولاد وذكرى من بعدك في الحياة .
على : إني
أسموا بتفكيري إلى ما هو أعلى من ذلك .
أسماء :
أنا لا أفهم كلامك ، كل ما أريده أن نجتمع سوياً تحت سقف واحد على كتاب الله وسنة
رسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
على
يتوه منها ويسرح بفكره وينظر بعيداً ويناجى ربه قائلاً :
رأيتُ الوجودَ وفيه بيانٌ
فأنتَ البيانُ أراكَ جليلا
أنا يا غفورُ أراكَ غفوراً
بذنبٍ ملاني أراكَ جميلا
خلقتَ الوجودَ فأنتَ الفريدُ
وهذا كصنعٍ بدى لا مثيلا
رأيتُ هواكَ علا كلَ ضِلعٍ
وهذا الجمالُ أراه دليلا
هواكَ سلولٌ لكلِ الأنامِ
كفاكَ الحبيبُ
بَلَى لا بديلا
فتبكى
أسماء وتصرخ قائلة : أنا لا أفهم ما تقوله ، هل ستعيش راهباً ، وهذا حرام في
الإسلام يا شيخ ، لقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوج صحابته الأجلاء ، ولكني
لا أفهم موقفك هذا ، هل ستصنع لنفسك ديناً جديداً .
فيأتي على
صراخها الجميع ، فترتمي في أحضان أمها فتأخذها وتذهب ، وتتركه أمه وهى غاضبة وتدخل
إلى الداخل .
فينظر
إليه عمر قائلاً : ماذا دهاك يا رجل البنت تحبك ، فلماذا لا ترحم قلبها المكلوم .
فلا يرد
عليه وينظر لأعلى مردداً :
أنا يا رحيمُ أراكَ بقلبٍ
فأنتَ العليمُ بسرٍ خفانى
أراكَ عَياناً أراك بَياناً
فأنتَ العلاجُ دواكَ شفاني
نظرتُ إليكَ وكلى همومٌ
أراكَ مُعيناً أراكَ عياني
وهذا الجمالُ هداني لربٍ
ملاني بنورٍ بحبٍ ملاني
وهذى حياتي وفيها الرضاءُ
كفاكَ المراضي هواكَ ناداني
رأيتُ الوجودَ وفيه عذابٌ
وأنتَ الرضاءُ رضاكَ هداني
نظرتُ إليكَ وهذى جروحٌ
تناديك ليلاً بسرٍ خفانى
عليمٌ بكلِ القلوبِ عليمٌ
كفاكَ الرجاءُ هُداكَ علاني
وإني لَعاصٍ وكلى ذنوبٌ
وأنتَ الغفورُ لذنبٍ ملاني
ويبكى
ويغلق الستار .
*******************
المشهد الثالث
*********
يُفتح
الستار على " على " وهو يتلو القرآن بصوت ندى من قوله تعالى : أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم : " الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا
جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي
الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن
رَّبِّكُمْ ۚ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ
الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن
قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199) فَإِذَا
قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ
أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا
وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ
الْحِسَابِ (202) " البقرة . صدق الله العظيم .
ثم
يتوجه إلى ربه بالدعاء والمناجاة قائلاً :
اللهم
يا أرحم الراحمين ارحمنا وإلى غيرك لا تكلنا وعن بابك لا تطردنا ومن نعمائك لا
تحرمنا ومن شرور أنفسنا ومن شرور خلقك سلِّمْنا.
اللهم
يا من لا يرد سائله ولا يـُخيِّب للعبد رجاءه إنا قد بسطنا إليك أكف الضراعة
متوسلين إليك بأسمائك الحسنى ما علمنا منها وما لم نعلم.
اللهم
ردنا إليك رداً جميلاً . اللهم ردنا إليك وأنت راضٍ عنا .
اللهم
أعنا على الموت وكربته ، والقبر وغمته والصراط وزلته ويوم القيامة وروعته .
اللهم
إني أسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب .
اللهم
لا تثقل بنا أرضا ولا تكرِّه بنا عبداً . اللهم لا تعذبني عند الموت .
اللهم
ارزقني الشهادة في سبيلك والموت في بلد نبيك محمد صلى الله عليه وسلم .
اللهم
اجعلنا من الذين يحبونَ لقاءكَ وتحبُّ لقاءهم .
اللهم
أمين ، أمين ، يا رب العالمين .
وإذا
بأمه الحاجة راضية تدخل عليه وقد انحنى ظهرها وأصبحت لا تقوى على شئ ويدور بينهما
هذا الحوار :
الحاجة
راضية : تقبل الله منك صالح الأعمال يا ولدى .
على :
اللهم أمين يا أماه .
الحاجة
راضية : ولكن لي عليك عتاب .
على :
يا أماه .. أنتِ بقلبي وعقلي .. ماذا حدث ؟
الحاجة
راضية : منذ أن توفى والدك أي ما يقرب من عام وأنت قد توليت عمله الذي كان يقوم به
.
على :
وهل قصرت في شئ يا أماه .
الحاجة
راضية : لا يا ولدى ، ولكن هل يعقل ما تفعله يا بنى ، شاب متفوق مثلك حاصل على
كلية الشريعة والقانون بتفوق ، وأعد لرسالة الماجستير ، ويحفظ كتاب الله بأحكامه ،
ويحمل إجازات في القراءات العشر الصغرى والكبرى ، ويلقى دروساً وخطباً رنانة
بالمساجد والمحافل الدينية المختلفة ، ويترك ذلك كله ويعمل عمل والده وهو تقطيع
سعف النخيل وتصنيع منه الكراسي والمناضد والأقفاص .
على :
وما المانع في ذلك يا أماه ، أما تعلمين أن أفضل شئ هو أن يأكل الرجل من عمل يده .
( فعَنِ
الْمِقْدَامِ رَضِي اللَّهم عَنْهم عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ
مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ
يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ) . (صحيح البخاري) .
الحاجة
راضية : أعلم يا بنى ، ولكن مقصدي هو أن تعمل بمؤهلك الدراسي .
على : أري
راحتي في ذلك العمل يا أماه ، ولا تنسي أيضاً أني أمارس الدعوة الإسلامية من خلال
دروسي وحواراتى مع تلاميذي بالمسجد .
الحاجة
راضية : يا ولدى كنت أتمني أن يكون لك شأناً عظيماً .
على :
وأنا والحمد لله راضٍ عن نفسي .. يا أماه لقد قسمت يومي لعدة أقسام : ففي الصباح
أعمل في ورشة أبى رحمه الله ، ومن المغرب إلى العشاء ألقي دروساً لتلاميذي بالمسجد
، ومن العشاء إلى الثلث الأخير من الليل أعتكف وأعيش مع ربى سبحانه بالذكر والقرآن
والدعاء ، ثم أستريح قليلاً حتى أذان الفجر فأصلى ، وأدعوه سبحانه أن يتقبل منى
هذه الأعمال .. وهكذا يا أماه كل يوم .
الحاجة
راضية : أعلم يا بنى كل ذلك ، ولكنك أصبحت لا تقوى على شئ بسبب قلة طعامك وشرابك
ونومك .
على : يا
أماه .. لقد جاء عن الحبيب صلوات ربى وسلامه عليه أنه قال : " ما ملأ ابن أدم
وعاءً شراً من بطنه ، بحسب ابن أدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لابد فاعلاً فثلث
لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه " . رواه الترمذي وحسنه.
ولقد
قال صلى الله عليه وسلم أيضاً يا أماه : " إن الشيطان يجرى من ابن أدم مجرى
الدم ، فضيقوا مجاريه بالجوع " . جاء فى الصحيحين .
يا أماه
.. لما قيل ليوسف عليه السلام : " مالك تجوع وأنت على خزائن الأرض ؟ قال :
أخاف أن أشبع فأنسى الجائع " .
الحاجة
راضية : بارك الله فيك يا بنى .
على يحس
بألم شديد في صدره ولا يريد أن يظهر ألمه لأمه ولكنها تلاحظ ذلك عليه فتسأله : ما
لك يا بنى ، ماذا حدث ؟!
على :
لا شئ يا أماه .. ولكني أريد شيئاً ؟
الحاجة
راضية : ماذا تريد يا كل أملى وعمري .
على :
إن نفسي تشتهى كوباً من الحليب الدافئ .
الحاجة
راضية : طلباتك أوامر يا نور عيناي .
وتذهب
لتحضر له كوب اللبن ، وينظر على إلى أعلى ويبتسم قائلاً : هل آن الأوان يا مولاي ؟
.. هل سألتقي بحبيبي ؟ .. ما أسعدني بهذا اللقاء يا مولاي .. وأنشد قائلاً :
رأيتُ الوجودَ وفيه اختلافٌ
وهذا دليلٌ لربِ الوجودْ
وكلُ الأنامِ تراكَ بعينٍ
وأنتَ مُنايا ومَنْ ذا يَجُودْ
أضأتَ نهاري مَحوتَ ظلامي
وذاكَ سيبقى بسرِ الخُلودْ
وأنتَ الجديرُ بكلِ صنيعٍ
وهذا الصنيعُ لربٍ يَسُودْ
وما في الحنايا يُسَبِحُ دَوماً
لأني سألقاكَ أَنَّا أعودْ
وتنزفُ عيني بدمعٍ غزيرٍ
إذا ما تخطيتُ كل الحدودْ
وأخشى إذا ما بَقِيتُ بليلٍ
وحيداً بقبرٍ طعاماً لدودْ
فَجُدْ يا إلهي بعفوٍ قريبٍ
فأنتَ المُجِيبُ وأنتَ الودودْ
وإذا
بأمه تدخل عليه وبيدها كوب اللبن الدافئ فتنظر إليه فتجده يحتضر وينظر إليها
مبتسماً فتقول له :
ما بك
يا بنى .. أأحضر الطبيب ، فينظر إليها قائلاً :
ذكرتكَ ربى وهذى لروحي
لها في الأنامِ مكانٌ علاها
وإني أراكَ ضياءً بحقٍ
كفاكَ العليمُ بسرٍ ملاها
ونوركَ ربى أراه بعينٍ
فأنتَ الجديرُ هواكَ نداها
وهذى روحي صفتْ
في سماءٍ
كفاكَ الخلوقُ كفاكَ ضياها
وروحي تناديكَ ليلاً فأنتَ
بديعٌ بحقٍ رضاكَ نقاها
بكيْتُ وإني لَبَاكٍ لذنبٍ
علاني كفاني أراكَ لِواها
وهذا المشيبُ أراهُ نذيراً
كفاكَ النذيرُ بأمرٍ علاها
أنا في رضاكَ أراني سعيداً
أنا في ضياكَ أراكَ جِلاها
وإني لراضٍ بأمر الحكيمِ
قضاه نَفُوذٌ لروحٍ نداها
وروحي صفتْ في سماءٍ لربٍ
أراه مجيداً لصنعٍ علاها
أنا يا طبيبُ أراكَ علاجاً
وهذا لَحَقٌ أراكَ دواها
فأنتَ الدواءُ لكلِ الأنامِ
وأنتَ العلاجُ هُداكَ غِذاها
وإذا به يغيب
عن وعيه ، فتصرخ أمه ، فيفيق مرة أخرى ، فتضمه إلى صدرها وهو يبتسم ويقول لها : لا
تجزعي يا أماه فإني ذاهب إلى ربي سبحانه ، وسيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
لا عليكِ يا أماه .
فتبكى أمه
بكاءً شديداً ، فيرفع يده ويمسح دموعها ويقول لها :
أعطني كوب
اللبن يا أماه .
فتعطيه كوب
اللبن فلا يستطيع حمله ، فتحمله عنه وتسقيه منه جرعة صغيرة ، ويحمد الله على ذلك
ويفارق الحياة وهو بين يدي أمه .
وإذا بأنوار
المسرح تطفئ ويسلط الضوء عليه وعلى أمه فقط وهى محتضنة إياه ، ونسمع صوتاً كأنه
صوته تالياً لكتاب الله تعالى من قوله تعالى : " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا
اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا
تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ
(30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ
وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)
نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ (32) . فصلت .
ويغلق الستار
على ذلك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق